الديموغرافيا

شبان يرفعون علم فلسطين
شبان يرفعون علم فلسطين

يطيب لأصحاب الخطاب الشعاراتي عقد مقارنات- غير منطقية من وجهة نظري- ليثبتوا صحة مزاعمهم فيما يتعلق بفلسطين، كأن يُقارنوا مثلاً بين فلسطين والجزائر، أو فيتنام، حيث واصل المقاومون ضرب المستعمرين هناك حتى وصلوا إلى تحرير أرضهم بالكامل، وهنا على المقاومين أن يفعلوا ذلك ليصلوا إلى ذات النتيجة.

ما من شك أن تجارب الآخرين يمكن لها أن تقدم نموذجاً ملهماً، ويمكن لمن يتتبع خطوات التجارب الناجحة أن يحقق نجاحاً ما إن سار على ذات الطريق، لكن هذا مشروط بتطابق معطيات التجربة المراد تتبع خطواتها مع تجربتنا، وإلا فإن استنساخ ذات التجربة في ضوء معطيات غير متطابقة لا يمكنه أن يصل إلى ذات النتائج.

يتجاهل المقارنون حجم الاختلاف في طبيعة كل من الاستعمار الفرنسي للجزائر، والأمريكي لفيتنام، وطبيعة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، حيث لم يكن أي من الاستعمارين الفرنسي، أو الأمريكي إحلالياً كما الاحتلال الإسرائيلي، ولم تكن المقاومة في أي من البلدين، فيتنام والجزائر تهدد وجود دولة أمريكيا، أو فرنسا، لقد كان أقصى ما يسعى إليه المقاومون هناك هو طرد التواجد العسكري، والتخلص من تبعات الاستعمار، ثقافية كانت، أو اقتصادية، وهذا ما لا ينطبق على الحالة الفلسطينية بأي وجه من الوجوه، فنحن أمام دولة تشعر بالتهديد الوجودي، ولشعبها ذكريات عميقة مع محاولات الإبادة، ثم إنها ليست بمعزل عن الرغبات الاستعمارية العالمية، إنما هي على الحقيقة رأس حربة، وشرطي متقدم لجيوش كبيرة من الاستعماريّين، الذين لم يتخلوا تماماً عن مصالحهم في المنطقة، على الأقل هكذا كانت يوم تم التخطيط لنشأتها، وأظنها لا تزال تحتفظ بذات الدور، كل هذا جعلها ليست مجرد دولة غازية يمكن لها أن تعود بجيوشها إلى وطنها، إنما مركزاً لإدارة الصراع على المنطقة، لذلك تحرص كبريات الدول العالمية على الحفاظ على تفوقها على المنطقة، بل وأزعم دون تردد أن دولاً كبيرة لن تتردد في دخول أي معركة يمكن لها أن تهدد وجود إسرائيل، هذا إضافة إلى التعقيد الناتج عن استجلاب ملايين اليهود، وتوطينهم في فلسطين، وحتى اللحظة لم نفهم بالضبط ماذا سيفعل بهم مُدّعو القدرة على تدمير إسرائيل بعد تدميرها..!

سأكرر هنا ما قلته عشرات المرات:

إن كل هذا لا يدعوني إلى اعتبار وجود إسرائيل قدراً نافذاً إلى الأبد، بل ولا يدعوني إلى التنازل عن فكرة إزالة إسرائيل، لكني لا أدعو في نفس الوقت إلى مناطحة العالم بأظافر شعب أعزل، اقتداءً بتجارب لا تشبهنا، إنما إلى ابتكار وسائل لا تفيد معها ترسانات العالم العسكرية كلها، وليس فقط ترسانة إسرائيل، وسائل قادرة على تحييد القوة التي لا نمتلكها، بينما تمتلكها إسرائيل وحلفاؤها، وتتفوق بها علينا بمسافات كبيرة جداً، وهنا أعني بالضبط { الديموغرافيا }، وربما هذا بالضبط ما جعلني أرى في فصل غزة بمليونيها نكبة لا تقل عن نكبة عام 48، حيث أرَحٔنا إسرائيل من عبئ هذين المليونين، دون أن نحقق مكاسب سياسية حقيقية مقابل هذه النكبة، ومن هنا أزعم أيضاً أن إسرائيل ساهمت في تمهيد الطريق لهذه النكبة، ودحرجت إليها الفلسطينيين، ونحن بغبائنا انجرفنا إلى الأخدود الذي حفرته إسرائيل بأيديها لنا.

اقرأ أيضاً: تل أبيب تشق توازناً صعباً بين منافع الصين ومخاوف أمريكا

لكن حتى مع فصل غزة- والذي صار واقعاً حقيقياً على الأرض الآن، وإن زعم السياسيون أنه مجرد انقسام مؤقت- حتى مع هذا الفصل فلا تزال الديموغرافيا سلاحنا الأخطر في الضفة، والقدس، والداخل الفلسطيني، فهناك يتواجد الآن ما لا يقل عن خمسة مليون فلسطيني، وأظن أنه من المستحيل أن تتمكن إسرائيل من طردهم، إلا في ظروف استثنائية نتمنى ألا تستطيع إسرائيل دحرجتنا إليها، مستغلة غباءنا السياسي أيضاً، إلا أن الرهان على عدم قدرة إسرائيل على طرد الملايين الخمسة وحده لا يكفي، بل لا بد وأن يرافق ذلك جهودٌ فلسطينية تجعل من تعزيز صمود الفلسطينيين محوراً لمجهوداتها الوطنية، ولأن مثل هذه المهمة الوطنية لا يمكن لها أن تتم بشكل عشوائي، فلا بد إذن من وجود جهة مركزية تباشر هذا الدور، وتحميه، وهنا تحديداً تكمن أهم محطات تقاطعي مع ضرورة وجود سلطة مركزية، أو حتى مع السلطة القائمة بالفعل هناك، مهما كانت ملاحظاتنا عليها من حيث الآداء السياسي، أو الإداري، حيث السلطة هناك ليست منزهة، وليست قديسة، وليست بالطبع فوق النقد، لكن ما هو غير مقبول، وغير مضمون النتائج- من وجهة نظري- هو العمل على تدمير السلطة هناك، حيث ليس هناك من يضمن لنا بدائلاً أفضل حالاً منها، لا سياسياً، ولا إدارياً، خاصة بعد تجربتنا للبدائل هنا في غزة، كما أن القدرة على خلق سلطة بديلة قد تكون معدومة تماماً، حيث ستمنع إسرائيل تَخَلُّق أي سلطة بديلة من مكونات ترفع شعار المقاومة المسلحة، والإزالة العسكرية لإسرائيل، ما يعني أن مجهول ما بعد زوال السلطة الفلسطينية- إن زالت لا سمح الله- غير معروف الشكل، أو الوجهة، إن لم يكن حالة من التفكك، والتمزق، الذي ستتقن إسرائيل استغلاله لفرض مزيد من التضييق على الفلسطينيين، وربما يدفع ذلك بعضهم إلى مغادرة البلاد كما يحدث هنا في غزة، وهذا بخلاف ما نزعم أن علينا جميعاً أن نعمل عليه، وهو تدعيم بقاء الفلسطينيين، كمقدمة لمعركة الديموغرافيا، التي ربما لم نعد نمتلك من الأدوات ما هو أكثر فاعلية منها.

بكلمة أخرى:

إن معركة الديموغرافيا هي الأكثر تهديداً للمشروع الصهيوني، والديموغرافيا تحتاج إلى مجهودات كبيرة لتعزيز صمود الناس وبقائهم، وجهود كهذه لا بد لها من جهة ترعاها، تتمثل حتى اللحظة بالسلطة الوطنية المعترف بها عالمياً، والتي لا تستطيع إسرائيل بجرة قلم شطب هذا الاعتراف الدولي، ما يجعلها الجهة الأكثر قدرة على القيام بمهمة الحفاظ على البقاء.

قد لا يطيب كلامي هذا للشعاراتيين، أو العاطفيين، المشحونين بالعواطف الوطنية، الذين يصعب عليهم الاعتراف بحقيقة الواقع، وموازين القوة الحالية، وقد يرون فيه خطاباً انبطاحياً، أو متخاذلاً، وأنا شخصياً أتفهم منهم ذلك، لكن مواقفهم هذه، أو حتى تفهمي لتلك المواقف لا يغير من حقيقة الواقع، ولا ينفع كثيراً في معركة شديدة التعقيد كمعركتنا مع إسرائيل، فنحن حقيقة كفلسطينيين في هذه اللحظة التاريخية لا نملك ما نحطم به إسرائيل وحدنا، ولا يوجد أي طرف عربي، أو إسلامي لديه الجهوزية لخوض معركة كهذه معنا، هذا هو الواقع حرفياً، وهذا هو ما لا نستطيع تجاهله، دون أن نتنازل عن حقنا التاريخي في كل فلسطين، لكن دون التمترس عند ذات الأدوات التي لم تستطع تحقيق غاياتها حتى اللحظة، وليس من المتوقع- وفقاً لواقع موازين القوة- أن تستطيع ذلك في المستقبل، لذلك نحن نضغط على جراحنا، ونبحث عن الوسائل الواقعية الممكنة، التي لا تهدد قدرتنا على البقاء، ولا تحطم صمودنا، ويمكننا من خلالها أن نفعل شيئاً، حيث يمكنني أن أزعم في ختام مقالي هذا، أن إسرائيل أيضاً في مأزق، فلا هي قادرة على الانسحاب من الضفة بكل مستوطنيها، بعد هذا التشابك غير القابل للانفكاك هناك، ولا هي قادرة على التخلص من الملايين الخمسة الفلسطينيين، القاطنين في الضفة، والقدس، والداخل الفلسطيني، ما يعني أن وجهة واحدة- ربما- هي المتبقية، ما لم تستطع إسرائيل دحرجة الواقع خصوصاً في الضفة، نحو ما يمكنه تهديد وجود الفلسطينيين هناك.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo