فلسطينيو الـ 48 .. كسر رهان الأسرلة

مظاهرة لفلسطينو 48
مظاهرة لفلسطينو 48

هم شعب فلسطيني جذوره ضاربة في الاصل, من حيث الهوية والتاريخ والنضال, ولم يكونوا يوما منفصلين أو منعزلين عن القضية الفلسطينية وصراعها ضد الاحتلال, بالرغم من المحاولات الهائلة والمستمرة من قبل الدولة العبرية لتغيير هويتهم وانتمائهم وحرف بوصلتهم , مستخدما في ذلك كل الوسائل الامنية والنفسية, فضلا عن استخدام القوة والبطش وتجيير القوانين والتشريعات لفصل ذاكرتهم عن ذاكرة التاريخ الفلسطيني .

 بعد نحو 74 عاماً من استمرار صمودهم داخل فلسطين التاريخية، ما زال "فلسطينيو 48" يقودون معركة البقاء والتصدي لسياسات الاحتلال القائمة على التمييز والعنصرية، وتجريدهم من حقوقهم السياسية والوطنية والاجتماعية. فهذه الشريحة الفلسطينية، التي صمدت أمام كل محاولات التهجير والطرد وعايشت ظروف النكبة بكل جروحها وآلامها وعذاباتها, لا تزال الى اليوم تعتز بهويتها وانتمائها للشعب الفلسطيني، ورغم انهم أجبروا قسرا على حمل "الهوية الإسرائيلية" ، بعد أن أعلنت تل أبيب طرد كل مَن لا يحمل تلك الهوية, لم يتخلوا عن الانخراط في النضال ومسيرة الكفاح ورفع العلم الفلسطيني في كل مناسبة.

1. كي الوعي الوطني

ومنذ بداية الاحتلال عام 1948 تعاملت دولة الاحتلال مع فلسطيني الداخل على قاعدة العداء والاحتواء والريبة، ومن ثم بدأت في سن القوانين والتشريعات التي تحشرهم في مسار وممر اجباري للتعامل مع مؤسسات دولة الاحتلال رغما عنهم في كل شئون حياتهم. لم يكن هذا كله بمعزل عن التاريخ الدموي الذي تبنته قوات الاحتلال حينما ارتكبت عشرات المجازر والمذابح ضد المدنيين والابرياء لخلق حالة من الرعب والتهجير في اوساط فلسطيني الداخل, كما حدث في مجزرة كفر قاسم عام 1956، ومصادرة أراضيهم، واعتقال كل من يتحدث بلسان عربي فلسطيني او ينافح عن وطنه وقضيته , كما قامت بمصادرة مساحات واسعة من اراضيهم واعتبارها مناطق عسكرية مغلقة.

وتشير الإحصائيات إلى أن عدد الفلسطينيين اليوم قد وصل إلى نحو (13.5 مليونا), يعيش نصفهم تقريباً في فلسطين التاريخية (حوالي مليونيْن في أراضي 48 ونحو 5 ملايين في أراضي 67) والنصف الآخر (حوالي 6.5 ملايين) في الشتات.

اقرأ أيضاً: العمال .. بين جشع المؤسسات وقرار الحد الأدنى للأجور الجديد

وبعد أن سيطرت على المدن والقرى وفرضت نظامها العسكري, بدأت دولة الاحتلال في اعتماد الاساليب الناعمة والمتدرجة فيما يسمى "بالاسرلة", وهي تحويلهم الى مواطنين إسرائيليين, من خلال منظومة أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية رعتها حكومة الاحتلال ومنحتها كل الامكانيات والامتيازات وجندت لها كل أذرع الحكومة والامن لتحقيق هذا الحلم الكبير!!

وتتبنى إسرائيل نهج "كيّ الوعي"، الذي يقوم على محو البصمة الوطنية الفلسطينية من ذاكرة فلسطيني الداخل واستبدالها ببصمة اسرائيلية تحت مظلة خادعة حول قيم المساواة ومفهوم الحقوق المدنيّة، وأنّها دولة للجميع. واستُخدم مفهوم "كي الوعي" بشكل مبالغ به في العام 2000، على لسان إيهود باراك، وزير الحرب الإسرائيلي حينذاك، حين قال: "إنّ إسرائيل بصدد كيّ الوعي الفلسطيني بالنّار، وتكريس الشعور بالعجز، ثمّ الاستسلام".

وقد وثّق مركز عدالة، ضمن قاعدة بيانات التشريعات التمييزيّة، 50 قانونًا إسرائيليًّا ضدّ فلسطينيي 48 لترسيخ فكرة يهودية الدولة، بالاعتماد على دعم الغالبيّة اليهوديّة، مثل قانون الجنسيّة اليهوديّة الذي ينص على سحب المواطنة ممن يمس أمن إسرائيل، وأداء القسم لمن يحمل الهوية الإسرائيلية بيهوديّة الدولة، ومن يرفض تسحب منه المواطنة.

طبعا حاولت ان تسوق كل هذا تحت مسمى التعايش, وان هؤلاء الفلسطينيين ما هم الا أقلية تعيش في كنف دولة عاد مواطنوها الى الارض الموعودة بعد الاف السنين, وحاولت ان تزرع في عقولهم أنه لا علاقة لهم بأرض فلسطين ولا بتاريخها ولا حتى بلغتها العربية, وتوج ذلك بقانون القومية الذي يكرس ان اسرائيل دولة يهودية ولليهود فقط, وأن الباقين مجرد ضيوف عابرون على تاريخهم!!

ربما شعرت اسرائيل بكثير من النشوة حينما رأت أن بعضها من جهودها قد أثمرت في انشاء احزاب عربية يهودية وفي التحاق فلسطينيين بمؤسسة الكنيست وفي الزيارات والنشاطات المتبادلة, وظنت ان الامور قد استقرت لها, وانه لم هناك ما يهددها في داخلها.

ومن المفارقات ان دولة الاحتلال , فوق خشيتها من تعاظم الهوية الفلسطينية, باتت تخشى من ان حمل الهوية الاسرائيلية من قبل فلسطيني 48 سيشكل خطرا عليها وينافسها في النمو السكاني مستقبلا, لذا بدأت في طرح مغريات جديدة، كان أبرزها ما عرضه الوزير أفيغدور ليبرمان، بالحصول على مبالغ مالية طائلة والتنازل عن الهوية الإسرائيلية والهجرة إلى دولة أجنبية. كما أن خطة تبادل الأراضي، التي ما زالت تطرح حتى اليوم، وشملتها صفقة السلام التي أعلنها الرئيس الأميركي ترمب، تعني نقل بلدات المثلث التي يسكنها فلسطينيو 48 إلى السلطة الفلسطينية، مقابل ضم مستوطنات لمنطقة نفوذ إسرائيل.

2. التمرد والعصيان

غير أن الصدمة برزت تظهر على وجوه المحتلين حينما بدأت مظاهر التمرد والعصيان ومواجهة القوة الاحتلالية من خلال تنظيم  المظاهرات والاعتصامات والإضرابات، وبشكل جماهيري كبير ,وتعزز ذلك في يوم الارض عام 1976 , وهو اليوم الذي اصبح شعارا ورمزا للتمسك بالأرض والهوية. كما كان من أهم مظاهر ورموز فشل الاسرلة رفض الالتحاق بجيش الاحتلال وأداء الخدمة العسكرية رغم كل المغريات والدعايات والحرب النفسية, الا ان الشباب الفلسطيني ضرب مثلا عظيما في التشبث بفلسطينيته ورفضه الانخراط في جيش الاحتلال. كما أن البعض اتجه الى تشكيل مجموعات وأحزاب وطنية للحفاظ على الهوية الفلسطينية  وقد لعبت هذه التجمعات- سواء كانت سياسية او اجتماعية- دورا كبيرا في تحصين الهوية الوطنية وفي تحشيد الجماهير الفلسطينية ضد القرارات والاجراءات الصهيونية. ومن ثم كانت الانتقالية الكبيرة في التوجه نحو العمل الفدائي وتنفيذ هجمات مسلحة ضد قوات ومواقع الاحتلال وشارك في هذه العمليات المئات من فلسطيني الداخل, مثل أسرة الجهاد,  وهي منظمة سرية شبه عسكرية تأسست عام 1979 من مجموعة من الشبان من مدينة باقة الغربية، دعوا إلى تحرير فلسطين بالجهاد المسلح، ونسبت لهم عمليات إحراق ممتلكات يهودية، وقد تم القبض عليهم عام 1981.

ومع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 برز الدور الكبير لفلسطيني الداخل حيث كسروا الكثير من المحرمات الصهيونية وبدأوا في تنظيم مظاهرات تضامنية ومؤيدة للانتفاضة , كما عملوا بنشاط كبير في تقديم المساعدات الصحية والاغاثية لاهالي الضفة والقطاع.

كما برزت جهودهم الكبيرة والعظيمة في ساحات عديدة من بينها ساحة الدفاع عن المسجد الاقصى ومحاولات اقتحامه او حفر الانفاق تحته، وتجلى ذلك في عام 2021 الذي شهد أقوى حركة مرابطين في الدفاع عن الأقصى في باب العامود، والاعكتاف خلال رمضان لمنع اقتحام المستوطنين للمسجد, وكان للشيخ رائد صلاح الدور الابرز في الحفاظ على ثالث الحرمين مما اضطر دولة الاحتلال لابعاده عن المسجد ثم اعتقاله المرة تلو الاخرى..

وخلال العدوان الوحشي على قطاع غزة في  مايو 2021، تجلت الصورة على حقيقتها مرة اخرى , وضرب فلسطينيو 48 مثلا عظيما في تعزيز الهوية الوطنية وكسر الرهانات الاسرائيلية على الاسرلة ، فقد شهد معظم المدن والبلدات والقرى ذات الأغلبية الفلسطينية، وما يُسمى المدن المختلطة، احتجاجات صاخبة ضد الهجمات الدموية ضد مواطني قطاع غزة، وهي احتجاجات اندلعت نصرة للقدس، ومشاركة للهبّة التي شملت الضفة الغربية وقطاع غزة, لدرجة ان الباحث في معهد الأمن القومي الإسرائيلي كوبي ميخائيل قال" إن ما حدث في المدن المختلطة والبلدات الفلسطينية في الداخل "أخطر من المواجهة على جبهة غزة؛ لأنها تحدث مع مواطني الدولة، وداخل البيت، ولا يمكن الردّ عليها كما يتم الرد على العدو".

3. أوسلو.. قاصمة الظهر

بعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993 بدا وكأن القضية الفلسطينية حصرت بالوضع السياسي للضفة الغربية وغزة، وبدأ شعور يتسرب الى فلسطيني 48 أنهم تُركوا إلى مصيرهم ضمن وجودهم تحت دولة الاحتلال, مما دفع البعض الى حالة من الانكفاء والبحث والتركيز على أوضاعهم وحقوقهم الداخلية , وبدأت تظهر شعارات المواطنة والمساواة والحقوق الاجتماعية.

فالاتفاقية عمقت التشتت الجغرافي، وحفرت أخدودا سياسياً عميقاً غير مسبوق داخل الجسم الفلسطيني, وتجاهلت الحضور السياسي لفلسطيني الداخل, كما أنه عكس عجز القيادة الفلسطينية عن إدراك الثقل الاستراتيجي لمليون وربع المليون فلسطيني على مستوى الصراع طويل الأمد مع الصهيونية. واختزلت هذه القيادة رؤيتها لدورهم في أداء دور احتياط أصوات لحزب العمل، أو ما سمي باليسار الصهيوني المعني-كما خدعت القيادة - بتحقيق تسوية مع الشعب الفلسطيني.

وقد استمر هذا العبث السياسي الى يوما هذا, فلا المنظمة حصلت على استقلال لاراضي العام 67 ولا استطاعت ان تحافظ على وحدة الشعب الفلسطيني.

فلسطينيو 48 سيبقون دوما الذخر والكنز الاستراتيجي الوطني وحائط السد الكبير للاسرلة , لذا فان المطلوب منهم ان يعززوا هذه الهوية الوطنية ولا يلتفتوا الى هؤلاء الذي يعتقدون انه يمكن التعايش مع دولة الاحتلال والتفيؤ بعلمها الازرق. لقد سقط القناع عن دولة الابارتهايد ولا ينبغي لاحد ان يخدع بعد اليوم بهذه الشعارات البراقة الكاذبة.

هناك حاجة ملحة وقوية لخلق حالة التحام بني فلسطيني الضفة والقطاع واخوانهم في اراضي ال 48 , هناك حاجة لتوحيد الرؤية وتوحيد النضال باعتبار ان هناك محتلا ومغتصبا واحد يجب اقتلاعه ومقاومته.

سيثبت المستقبل ان المراهنين على فصل القضية قد خسروا ,وان وحدة الشعب الفلسطيني غير قابلة للفصل او الانكسار,

 فالوطن واحد والدم واحد والعدو واحد.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo