عن النساء والأغاني والغواية

الفن
الفن

أحيانًا تكون في نيَّةٍ لأن تكتب مقالًا حول موضوع معين، ولكن المزاج يأخذك إلى حيزٍ آخرَ لم يكن بالحسبان، وهذه المرَّة كان "يوتيوب" هو من تآمر على المزاج فبدّل فكرة المقال إلى فكرة أخرى، وأعتقد أن الفكرة الجديدة تستحق أن أكتب عنها لما فيها من توضيح لأمرٍ هام بدأ يتسرب لأفراد المجتمع من خلال كلمات الأغاني التي لها تأثير كبير بسبب تداولها الكثيف بين الناس.

  • ماذا تريد أن تقول؟
  • لحظة .. دعني آخذ من وقتك ثلاث دقائق لا تكن متسرعًا!
  • حاضر .. هات ما عندك، وحدثنا عن الأغاني.

شاءت الظروف أن أستمع إلى أغنية جديدة لإحدى الفنانات بعنوان "مِسيطرة" اقترحها لي "يوتيوب" في غفلةٍ من الليل، وبعد أن انتهت من السيطرة، اقترح عليّ أغنية لنفس الفنانة بعنوان "مُتمكنة" وكانت أغنية عمرها بضع ساعات فقط، لكن ما أدهشني هو حجم الاستماع إليها وتداولها، بالرغم من قصر مدّة طرحها على الموقع، ممَّا دفعني إلى التدقيق في كلمات الأغنيتين فوجدت أنها كلمات فيها من الغرور والنرجسية ما فيها، لكنه غرور الدّلع، ونرجسيّة الغواية التي تحدُث بين العشاق، أي أنهن أغنيتين طافحات بالدلال الذي يدخل في سياق التمنع المراد من ورائه إذكاء الرغبة، وهنا الفرق واضح بين المُراد من كلمات الغرور والنرجسية في الأغاني المذكورة، وبين ما قد يظنه بعض المتداولين لتلك الأغاني بأن المرأة يجب أن تكون مسيطرة على زوجها وأسرتها بالمعنى الإلكتروني للكلمة، لأن الفنانة عندما قالت كلمات فوقيّة فهي قالتها من باب المداعبة وليس من باب الهوس بالمظهر، أقول ذلك لأنني قرأت أن تلك الأغنية "مسيطرة" قد تسببت في العديد من المشاكل بين الأزواج بسبب استخدام الزوجة لها في مطرح ووقت غير ملائمين، أو ربما لأنها تعاملت مع الأغنية بطريقة مُختلفة، فأرادت أن توصل من خلالها رسالة ما، فكثيرًا ما كانت الأغاني رسائل دالة على أشياء لا نستطيع البوح بها، فنكتفي بأن نبعث أغنية أو نستمع إليها في حضور المُرسل إليه، تحقيقًا للمثل القائل "الكلام إلك يا جارة وافهمي يا شطورة".

اقرأ أيضاً: بمساعدة المهربين..منتجات المستوطنات تدمر الأسواق الفلسطينية بالضفة

إن الانتشار السريع لتلك الأغاني التي تبث روح النرجسية والغرور بين المستمعين، تعمل على توصيل رسائل غير سوية وخطرة جدًا، لأنها مملوءة بمفردات سوف تُفهم على عكسها، وفي هذا السياق يقول روبرت غرين أن التكلم عن النفس هو غاية في التنفير واللا إغواء، وهو دلالة على عدم الثقة في النفس وعدم الشعور بالأمان، كما ويؤكد "غرين" أنّ الإغواء متاح للجنسين رغم أنه ولقرون عديدة كان واحدًا من الأسلحة القليلة التي كان على النساء استخدامها كي يستعبدن رغبة الرجل، وفي عالم يُثني عن المواجهة المباشرة، تكون الإغاظة والبرود والتحفّظ الانتقائي (الاختياري) شكلًا من القوة غير المباشرة، لكنّ المهم أن تجتمع الإغاظة بالإثارة، والإغواء بالغموض وترك المسافة ماديًا وعاطفيًا.

لا شك أن النساء النرجسيات هنّ أكثر من يسحر الرجال ويفتنهم كما قال فرويد، وأن الغواية الواعية، والمعرفة العميقة  هي من تؤهل المرأة إلى أن تكون محط أنظار الرجل الذي يفتتن في مدى نرجسيتها وشدة اكتفاءها الذاتي واستغنائها، علمًا أن الغواية سليقة، شيء موجود في الأصل، والمرأة فقط تنميها بوجود الشريك المتفهم العاشق، ولكننا في المجتمعات العربية وضعنا المرأة في زاوية معينة بسب نظرة الريبة لتصرفاتها، خاصة إن اقترنت بالغواية، مما جعلها تنقلب على تكوينها الأنثوي بتغيير مفاهيم الحياة لديها وجعلها تتصور أن إنجازها الوحيد هو أن تنجح في تكوين أسرة منضبطة، وزوجًا مسيطر عليه وأبناء متفوقين، وهذا بالطبع يصَّدر كأنه هدف وجودها الأوحد على هذه الحياة، لا شك أنه هدف قيّم، لكنه يجب أن يتحقق وتتحقق معه المتعة ولا يأتي على حسابها حتى لا تكتشف النساء أن العمر قد مضى دون أن تشعر بمتعة الحياة والزواج.

السيطرة والتمكن مفاهيم تنقبض لها النفس ولا تستأنس فيها أبدًا، لما لها من ارتباط بالقهر والسلطة الجبرية، لكنها هنا في هاتين الأغنيتين للسيطرة والتمكن معانٍ مختلفة تمامًا، فالفنانة لم تقصد منطوق الكلمات بل قصدت المعني الخفي لهما، وهذا بائن جدًا في طريقة الأداء المليئة بالتغج، حيث نقول في اللغة (تغنِجت) أي تدلَّلت على زوجها بملاحة كأنّها تخالفه وليس بها خلاف، وهذا يكون بهدف الإثارة، والعناد المغلف بالدلال واللَّوع شيء جميل وفائق التأثير على الرجال، لكنه لعبة خطرة جدًا إن كانت المرأة تجهل توقيت الانتهاء منها، لأن الأمر إذا زاد عن الحدّ المطلوب سوف يقبض النفس ويخنقها وينقلب الهدف إلى عكسه، لهذا يجب على المرأة المغناج  أن تعي متى تكشف اللعبة، خاصة أننا في بيئة زوجية وعربية لا تضع الدلال والملاطفة في الحسبان في الكثير من الأوقات، ولا تعطيه مساحة لينمو في بيئة نفسية سلمية.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo