الإبداع سواء شخصي أو عام، هو أساس الارتقاء بمستوى المعيشة بشكلٍ عام، وعندما يكون الحاكم مبدع في طرائق التفكير والتنفيذ فإنه "يخلق" شعبًا مبدعًا يكون له معول بناء وتعمير في حركة النهضة المجتمعية، ولكن عندما يكون الحاكم عكس ذلك فإنه يسرق عمر الشعب من خلال جعله يكرر أيامه بكل تفاصيلها المرهقة على مدار العام في دوامة غير مفهومة من القضايا والأفعال غير المنطقية.
وعلى ما يبدو فإن قادة الفصائل الفلسطينية جميعها فقدوا ملكة الأبداع في كل شيء، وكثيرًا منهم قد غابوا عن المشهد المرئي، واستعاضوا عن ذلك بالتصريحات عبر الفيس بوك أو المصدر الخاص أو ما شابه من مرايا غير واضحة المعالم، وأنا أعذرهم في هذا فربما لو خرجوا إلى الشعب عبر التلفاز، مثلما كانوا يفعلون في السابق لَما تعّرف عليهم الناس من فرط التغيير الذي حصل على أشكالهم وملابسهم والجدران التي يتصورون خلفها، وهذا تصرف بعيد النظر يقي من العين والحسد، لأننا شعب أكّال نكّار!
المصيبة هي أن تفقد ملكة الإبداع في عملك، وأن يكون صميم ذلك العمل هو الخطابات السياسية والبيانات، فماذا يعني أن نسمع تصريحات ضخمة تنتهي بتهديدات تطالب الوسطاء بالتدخل لدى الاحتلال من أجل الإيفاء بما تم الاتفاق عليه، وهنا بالمناسبة لا أحد يعلم ما تم الاتفاق عليه مع الاحتلال أساسًا عوضًا على المطالبة بتطبيقه.
اقرأ أيضاً: هذه أسباب ضعف الحشد الجماهيري للفصائل الفلسطينية
السؤال هنا، بماذا تهدد الاحتلال؟ ولماذا تنتظر من الوسطاء أن يتدخلوا ما دمت قادر على تنفيذ تهديدك؟ أم أنك كفصيل لا تستطيع دفع تكلفة الفعل الحقيقي فتكتفي بالتهديد من أجل بضع مساعدات جلها تعود على الفصيل وقياداته فقط؟
لماذا تجرب ما قد جربته منذ أعوام كثيرة؟ هل تتوقع أن الاحتلال سوف يعطيك ما تريد هذه المرة وأنت تستخدم نفس الأدوات؟ جربنا هذا عقب حروب امتدت منذ عام 2008 مرورًا بحرب 2021 ولا نعلم كم حرب باقية كي نصل إلى المنطق في التفكير السليم!
لماذا هذا التكرار الساذج؟! أعوام كثيرة ذهبت دون فائدة، تكرار في كل شيء بالمعنى الحرفي، الأيام تمر كما هي وبأكثر قساوة على الناس، وأكثر رغادة على القيادات التي تركت معظمها البلاد وهاجرت وراحت تطلق التصريحات، حتى هؤلاء الذين هاجروا كنا نتوقع منهم أن يكونوا أكثر إبداعًا بحكم التجربة الجديدة، لكنهم للأسف لم يكونوا كذلك، ومن تغيّر لديهم المفهوم أصبح ينتقد فصيله في الجلسات الخاصة، وعندما يتطلب حدث ما موقف شجاع يقول: معلش أنا في فمي ماء .. أي تغرغر وتفه يخو!
وكي لا نطيل الحديث المكرر أصلًا، أنا هنا أطالب تلك الفصائل بتحديث الخطاب الموجه للشعب، وتضمينه كلمات ومواقف جديدة من باب التجديد، وأن تعمل تلك الفصائل على تغيير بطاريات صمود الشعب لأنها أصبح تالفة تمامًا بدليل أن هذه الخطابات والتوصيات والتهديدات لا تقوم بشحن تلك البطاريات، بل على العكس تعمل على تفريغها بشكلٍ سريع بسبب القهقهة التي يطلقها الناس فيستهلكون بها طاقة بطاريات الصمود لديهم، هذا لأن الشعب جرب كل ما سبق ويعرف تمامًا كيف تبدأ القصة بدمه وكيف تنتهي بلحمه، وكلنا نعلم أن انهيار منظومة بطارية الصمود خطر كبير على الفصائل ووجودها المتحكم بالناس.
وأنا من موقعي هذا من على رأس شارعنا، أطالب الفصائل بابتكار أساليب جديد لتمييع الدم والوقت في انتظار ما لا يأتي، وصولًا إلى زوال "إسرائيل"
في النهاية، أقول للأجيال القادمة التي سوف تهزم الهزيمة: إننا كشعب، وإرادة، ودم، وذاكرة، لم تهزمنا اسرائيل قط، بل إن كل هزائمنا المعنوية والمادية كانت بسبب فصائلنا، وبسبب من سَرق وانتفع باسمها وحمايتها، وهم كُثر، والكثرة تغلب الشجاعة!
ملاحظة على هامش المتن: أعلن وزير الجيش في دولة الاحتلال الإسرائيلي الانتهاء من بناء وتشييد الجدار الإلكتروني حول قطاع غزة بطول 65 كيلو متر، وبهذا يصبح قطاع غزة سجن عام بكل ما للكلمة من معنى، والسياج هنا برًا وبحرًا وجوًا، وبهذا تكون إسرائيل قد وضعت مليوني إنسان داخل قفص حديدي مراقب بأدق الأجهزة والرادارات.