الدين الإبراهيمي

الدين الابراهيمي
الدين الابراهيمي

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عما يسمي:" الدين الإبراهيمي" حتى تكاد تظن أن هناك شيئاً ما حقيقياً تم ابتداعه يحمل هذا الاسم، مع أن أحداً لا يعلم بالضبط ماذا يقصد به من أطلقه، لكنه مع ذلك أخذ حيّزاً من التداول، حتى أن كبريات المؤسسات الدينية أولته بعض اهتمامها، وقالت بخصوصه ما تشك أن مطلقيه يريدونه منه.

مبدئياً: أظن أننا كمسلمين لا نشعر بأي حرج من استخدام هذا المصطلح، ويمكن بالمثل أن يكون غير المسلمين أيضاً يشعرون تجاه هذا التعبير ما نشعر به، خاصة وأن أهم الديانات السماوية الموجودة الآن تنتسب بشكل أو بآخر إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، ما يعني أن مجرد الاسم لا يمثل مشكلة لأصحاب الديانات السماوية.

أما إن أردنا الحديث عنّا نحن كمسلمين، فأظن أن هذا التعبير يمثل لنا مصدر فخر، وليس فيه ما يسوؤنا، فنحن نقرأ في القرآن الكريم مثلاً:" مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" ونقرأ أيضاً قوله تعالى:"  إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ"، وأيضاً:" وَجَٰهِدُواْ فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ ۚ هُوَ ٱجْتَبَىٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ" ولو تتبعت نصوص القرآن أكثر، خاصة منها ما يتعلق بإبراهيم عليه السلام ستجد تمجيداً عالياً، حيث لم يصف القرآن مثلاً أياً من أنبيائه بأنه وحده كان أمة، بينما فعل ذلك مع إبراهيم:" إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" وفي كل محطات حياته عليه السلام التي أشار إليها القرآن الكريم كان يتحدث عنه كنبي عظيم، أدى رسالته على أكمل وجه، ثم إن إحدى أركان الإسلام ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإبراهيم، والمقصود هنا هو الحج، فهو من رفع البيت الحرام الذي يحج له المسلمون كل عام:" وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم".

اقرأ أيضاً:  خفايا خبيثة.. الإبراهيمية دين مكس تريده إسرائيل

ما سبق يعني بوضوح أننا لا ننزعج من تسمية ديننا بدين إبراهيم وحسب، بل نحن نزعم ذلك أيضاً، وبالتالي فنحن لسنا ضد التسمية بحد ذاتها، لكن، ولأننا لا نعرف بعد ما الذي يعنيه مطلقو المصطلح، فإننا نود التأكيد على أننا سنكون مع أي بحث عن المشترك ليس فقط مع الديانات السماوية التي ترتبط بإبراهيم عليه السلام، بل مع كل أتباع الديانات على الأرض، خاصة إذا كان هذا المشترك سيؤسس لحالة من التعايش الإنساني، والمساواة الإنسانية بين كل بني البشر، في كل ما يتعلق بالحقوق والواجبات الإنسانية، لكن دون الذهاب تجاه العبث بالأديان، أو زعم القدرة على تجميع الديانات على معتقدات مشتركة، خاصة فيما يتعلق بالمعتقدات الأساسية، والتي باتت مستقرة في الأديان، بل وحتى في المذاهب الفرعية داخل كل دين، لأن أي محاولة من هذا النوع لا تعدو كونها مجرد وهم، لن يتلقفها الناس بالترحيب، ولن تصبح واقعاً في يوم من الأيام، كما أنها ستعني بشكل أو بآخر، أو بالأصح ستعني بالضرورة أن يتنكر أتباع الأديان إلى أصول دياناتهم، وهذا ما لن يحدث، لا الآن، ولا في المستقبل، وبالتالي فإن الحديث عن دين إبراهيمي واحد مشترك في كل عقائده ليس أكثر من وهم، رغم أننا نزعم أن في الأديان كلها مشترك رئيسي يتمثل في التوجه إلى الله وحده بالعبادة، وبأمهات الأخلاق، التي هي جوهر كل الأديان، بمعنى أننا في هذا يمكن أن نزعم بأننا بالفعل ننتمي إلى أصول واحدة، بل ودين واحد، لكن الأديان في دنيا الناس لم تتوقف عند هذا الحد، وإنما صار لكل منها صورته، وتفاصيله التي صارت جزءاً من الدين، وفي تلك التفاصيل لا يمكنك أن تجمع بين المختلفين دون أن يتخلوا عن ذواتهم، وهذا هو المستحيل بعينه، وبالتالي فإن البحث عن التعايش المشترك، والمساواة التامة أمام النظم والقوانين الدنيوية، بينما يُترك لكل منا أن يعبد الله بطريقته هو الحل الممكن للمشكلات الناتجة عن تعدد الأديان في المنطقة والعالم، أما زعم القدرة على صهرها في قالب واحد، فهو ليس أكثر من وهم، أو خرافة غير واقعية، ودونها- كما يقال- خرط القتاد، وربما أُلْهية جديدة يراد لها أن تلفت انتباهنا بالفعل عن جوانب أخرى للمسألة، خاصة إذا علمنا أن مطلقي مصطلح الدين الإبراهيمي هم ذاتهم مطلقو مصطلح السلام الإبراهيمي، الذي سيفتح المجال لإسرائيل أن تتغلغل في المنطقة، دون أن تتنازل عن أي من مقولاتها الدينية المزعومة التي أقامت عليها دولتها، كحق اليهود مثلاً في فلسطين، بزعم وعد إلهي لنسل إبراهيم، والذين اقتصرتهم الرواية الصهيونية على اليهود، برغم أن لإبراهيم عليه السلام نسلاً خارج ما يزعمون أنهم أسباط إسرائيل، أو أسباط يعقوب، هذا إن سلمنا بالفعل أن يعقوب هو إسرائيل.

السلام الإبراهيمي، والذي نظنه الابن الذي يُراد توليده من الدين الإبراهيمي لا يشترط على إسرائيل التخلي عن فكرة يهودية الدولة، ولا عن تميّز العرق اليهودي على الأغيار، على حد وصف التوراة لكل من هو غير يهودي، فعن أي إبراهيمية يدور الحديث؟

من حقنا أن نشك في أن هذه المقدمات المتدثرة بأسماء الأنبياء، وإبراهيم عليه السلام على وجه التحديد، لا علاقة لها لا بدين جديد يلغي الفوارق بين الأديان، ولا بسلام يحول دون زعم أتباع دين محدد امتلاك أراض الآخرين وفقاً لوصية الرب، إنما هو تعميد الطريق لقبول إسرائيل كما هي، دولة يهودية مملوكة من اليهود وحسب، أهلها هم شعب الله المختار، وغيرهم أغيار لم يخلقوا إلا لخدمة الشعب المختار، بمعنى أن المطلوب لا يتجاوز حدود القبول بإسرائيل كجزء طبيعي من المنطقة، بحجة أنها تنتمي إلى ذات الدين الذي تدين به كل مكونات المنطقة، حتى لو ظلت إسرائيل على رفضها للاعتراف بأي حق لغير اليهود في فلسطين.

إن السلام الإبراهيمي المزعوم الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق من خلال عمليات التطبيع المتتالية التي هرولت إليها بعض النظم العربية لا يمت إلى إبراهيم عليه السلام بأي صلة، ولا يمت إلى فكرة مساواة أتباع الأديان المنسوبة لإبراهيم بأي صلة،  إنما هو فقط محاولة لخلق أجواء جديدة في المنطقة تجعل من الوجود الإسرائيلي في المنطقة وجوداً طبيعياً، عادياً، يمكن التعايش معه، دون ربطه بمنح الفلسطينيين حقوقهم كما كان متوافقاً عليه عربياً فيما قبل، بل وجعل وقع كلمة إسرائيل على العقلية، والنفسية العربية أكثر قبولاً، فهم مثلنا أبناء إبراهيم، فما الغريب إذن في وجودهم بيننا؟!

على كلٍ: لن تكون هناك ديانة جديدة في المنطقة اسمها الدين الإبراهيمي، ولن يكون هناك بالتالي سلام اسمه السلام الإبراهيمي، إلا مع حفنة من طبقة الحكام دون الشعوب، طالما بقي الفلسطينيون غير حاصلين على حقوقهم، وطالما أصرت إسرائيل على كونها دولة يهودية، أو دولة لليهود من دون الآخرين.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo