هل يشفى الغزي من ذاكرته؟!

قطاع عزة
قطاع عزة

ندخل في الموضوع دون مقدمات المقالات المملة التي تُكرر المكرر، وتصغر روح القارئ الذي نبحث عنه، فهو ثروتنا المتبقية وسط حالة من التيه المعرفي.

قبل أسبوعين جاء زميل قديم مقيم في ألمانيا لزيارة الأهل في مدينة غزة، وهذه مجازفة عظيمة إذ قضى في سفره عدة أيام حتى تمكن من الوصول إلى غزة، وقطع حواجز ومطارات ونقاط تفتيش  وبهدلة كان له أن يتقي شرها لو أن لنا حكومة واحدة، وقوة واحدة، ووزير واحد، لكننا نمتلك من كل صفة اثنين، فتفرق وجعنا بين الدول دون رقيب أو حسيب.

طار هذا الصديق أمس قبل موعده بخمسة أيام، حتى أنه لم يخبرني بسفره، كنت وضعت في الحسبان أن أعزمه على سهرة في بيارة برتقال عند صديق مشترك لنا علنا نستعيد ذكريات السنوات القديمة التي كنا نسرق فيها البرتقال واللوز الأخضر، حيث كانت أشجار الحمضيات التي لم نكن نرى آخرها من كثرتها، أما الآن فأضحى البرتقال يُباع بأسعار عالية، وعن هذا الموضوع سألت صديقي المزارع عن السبب فقال لي العجب، قال أن دولة الاحتلال (ضحكت) عليهم، بأن جعلتهم يقصون أشجار الحمضيات ويزرعون بدلاً منها الورد ليتم تصديره إلى أوروبا بأسعار عالية جدًا، فعل المزارع هذا، وسنة بعد سنة، والمنشار يعمل في الأشجار، والورد ينمو ويُجهّز للتصدير، لكن الاحتلال منع تصديره وأغلق المعابر، وكلّف المزارع الثلاجات ورسوم الأرضيات في الموانئ والمخازن، حتى تلف الورد، وصار طعامًا للدواب.

عودة إلى صديقنا الذي عاد إلى ألمانيا، وبعد أن تحادثنا لأكثر من ساعتين عبر الهاتف، أخبرني أنه لم يستطع البقاء في غزة أكثر من ذلك، فسألته لماذا؟ فأجاب بالصدمة التي نعيش فيها ولم نعد ندري أنها مصيبة المصائب، وأن أعمارنا تمضي أمام أعيننا ولم نعد نكترث، أو بالأحرى لم يعد لدينا ما نكترث من أجله.

اقرأ أيضاً:  الإضراب ضد الاعتقال الإداري.. عذابٌ بلا تهمةٍ وتضامن دون المستوى

قال صديقي موجهًا كلامه عبري للأجيال في غزة: أنتم لا تدرون ماذا حصل لكم، لقد تم تشويه ذاكرتكم التي هي أهم المكملات الغذائية للدماغ في طريق السعي للوصول إلى المستقبل وتكوين الهوية.

أثناء جلوسي المتعدد مع العشرات من الشباب وفي أكثر من جلسة كانوا جميعهم يربطون أحداثهم الشخصية مثل الزواج والطلاق والموت، وأعياد الميلاد، حتى الأحداث التي تتعلق بنتيجة مباراة أو لعبة ورق، أو لقاء حدث صدفة، كل الأشياء كانت ترتبط بحربٍ معينة أو تصعيد عسكري.

لقد نبهني صديقي لأمر مهم، ليلة أمس جلست أنا وخمسة من الأصدقاء كل شخص من مدينة معينة  من مدن القطاع، ودار حوار بيننا استمر لأربع ساعات متواصلة، أنهاها صاحب المقهى وهو يجمع الكراسي والطاولات قبيل منتصف الليل، لقد استرجعت تلك الجلسة وما دار فيها من كلام استمر لأربع ساعات استعدنا فيها ما حصل في السنوات الماضية أثناء الحروب المتكررة على قطاع غزة، وأحيانًا كان يدب بيننا الخلاف حول مدى صحة معلومة ما، حيث كان صديق لي يُصر على أن الزمالك قد فاز على الأهلي في حرب 2014، وصديق كروي آخر أصر على أن هذا حصل قُبيل حرب 2021.

من المعتاد، بل من المنطق أن يربط الإنسان ذكرياته بأحداث كبيرة، سواء محلية أو عالمية، وهذا حصل منذ القدم، فكان الإنسان يتعرف على تاريخ الميلاد أو أحداث شخصية من خلال ربطها بمواسم الحصاد، أو بداية الفصول الأربعة، أو بحرب كبيرة أو موت شخصية عظيمة، هذا التنوع في الذاكرة كان متاحًا لإنسان ما قبل الآلة، وهذا هو ما نُحرم منه في غزة في عصر التكنولوجيا فائقة التطور، إذ صنع الاحتلال لنا تقويمًا جديدًا نعرف من خلاله أحداث الأيام في قطاع غزة ونقيس عليها، حيث ربطنا أيامنا كلها بذكريات أيامٍ مرعبة لا تُمحى من الذاكرة بسهولة، وكلما خفتت سرعان ما يشحنها المحتل بالصور والأحداث الجديدة كي يبقى محافظ على النفسية المشوهة التي صنعها داخل كل إنسان في هذه البقعة من العالم.

تعتبر الذاكرة بيت التجارب والأحداث التي يمر بها الإنسان على طول أيامه، وتعرف الذاكرة بأنها عملية احتفاظ بالمعلومات لمدة من الزمن لغرض التأثير على الأفعال المستقبلية بهدف تشكيل الهوية السمات الشخصية للفرد.

وعلى هذا الأساس قام الاحتلال بتخريب ذاكرة الناس في غزة، حيث أن هناك أجيال كاملة ترتبط أيام أعمارهم يومًا بيوم  بأحداث قتل وقصف وتدمير قامت فيها إسرائيل، بحث تجعل من الصعوبة على أي فرد أن يشفى من هذه الذكريات لأنها أصبحت في مرحلة التثبيت لكثرة تكرارها على مدى الأيام والشهور والسنوات.

إن الحرب الحقيقة والحصار الحقيقي هو حصار الذاكرة والثقافة والتنوير، بل إن الحرب الشرسة التي يقودها المحتل هي في الأساس حرب على بشريّة الفلسطيني داخل قطاع غزة، من أجل تحويله إلى متطرف أو مدمن أو مريض نفسي، أو في أحسن أحواله إنسان فارغ من أي أهداف تعمل على استعادة الروح الجمالية فيه.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo