بريطانيا....الخاسر الأكبر

بريطانيا
بريطانيا

(1) الكيل بمكيالين

لا أعلم كيف استيقظت بريطانيا بعد 34 سنة من انطلاق حركة حماس لتكتشف انها  حركة ارهابية!! يبدو الامر في بدايته صادما وغير منطقي, لكن بالنظر الى مواقف الدول الاوروبية – خصوصا بريطانيا – لا يستغرب المرء من مثل هذا القرار الذي لا ينم الا عن تسرع وجهل بالسياسة وتعقيداتها في منطقة الشرق الاوسط.

صحيح ان الاتحاد الاوروبي- كعادته- سار على خطى الولايات المتحدة ووضع حماس على  قائمة الارهاب عام 2003 , لكن تعالت اصوات كثيرة من الاصوات الاوروبية تنادي بضرورة مراجعة هذه السياسية بعد لقائها بقيادات الحركة مرات ومرات في عدة عواصم وخرجت بنتائج واضحة ان حركة حماس لم تمارس الارهاب ولم تقترب منه , وانها حركة تحرر وطني تسعى الى تحقيق امال الشعب الفلسطيني, فضلا عن كونها حركة لها نشاطات انسانية واجتماعية وشاركت في الانتخابات الديمقراطية. وللاسف ان القادة الاوربيين رغم اقتناعهم بكثير من الحقائق, خاصة تلك التي تصدر عن منظمات حقوقية ودولية, الا أنهم يغلبون سياسة المصالح الى المباديء , فيغضون الطرف عن كل جرائم اسرائيل التي ترتكب كل يوم , سواء استيطان او هدم منازل او تهجير الفلسطينيين من بيتهم او الاعتقالات والاغتيالات, ويركزون على القوى الفلسطينية ويدققون في اقوالها وتصريحاتها وافعالها , وينبشون في مناهج التعليم الفلسطيني وينقبون عن كل صغيرة وكبيرة لاستخراج ما يمكن ان يشكل لهم دليلا على "الارهاب الفلسطيني".

انه النفاق السياسي الواضح الذي لا يمكن ان يغطى بغربال المواقف المزيفة التي تطلقها الدول الاوربية حول الديمقراطية وحقوق الانسان.

(2) الأسباب والدوافع

واضح ان هذا القرار الجائر لم يأت عبثا ولا مجرد نزوة من وزير الداخلية البريطانية, وانما بعد سلسلة من الاجراءات والضغوطات والاتصالات والتي اسفرت عن مثل هذال القرار الاعوج.

وواضح ان بريطانيا التي خرجت من عباءة الاتحاد الاوربي وتحررت من القيود المفروضة عليها , سياسيا وتجاريا, جاءتها الفرصة وافتح الباب امام حزب المحافظين ان (يصلح) سياسة من سبقه من حزب العمل والذي يعتبر مناصرا تاريخيا للقضية الفلسطينية.

اقرأ أيضاً: هآرتس تحذر من مخاطر العبوات الناسفة في طريق بايدن

كما أن الحكومة البريطانية بقيادة بوريس جونسون استغلت التغير الذي طرأ على حزب العمال بعد الانقلاب على الزعيم جريمي كوربين، المعروف بتأييده لحقوق الشعب الفلسطيني ووقوفه ضد الاجراءات الإسرائيلية في الاراضي الفلسطينية ، لهذا فان الحزب تعرض الى  حملة ممنهجة باشهار سيف الاتهام بمعاداة السامية ومن ثم رضوخ قيادة الحزب الحالية إلى ضغوط كبيرة لابعاد كل الرموز المنحازة إلى الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة, كما أن المزايدات الحزبية البريطانية على بعضها البعض في الولاء لإسرائيل ومحاربة خصومها ساهمت بشكل كبير في خلق بيئة مساعدة لتمرير ها القانون.

ان الجهة الرئيسة التي يهمها ان تكون حماس في قائمة الارهاب او تطارد وان تلاحق وان تجفف منابعها هي اسرائيل, لذلك ان اول المؤثرات في القرار البريطاني هي اسرائيل, التي تعتبر حماس عدوها الرئيس في المنطقة, بعد ات طوعت الكثير من الانظمة والاحزاب لصالح شرعيتها ووجودها.

معروف ان وزيرة الداخلية البريطانية انها من أشد المناصرين لإسرائيل ومدافعة عنها بكل قوة , وسبق ان وجهت اليها اتهامات واضحة بعقد لقاءات سرية مع مسئولين اسرائيليين من وراء ظهر رئيسة الوزراء ولذا اضطرت الى الخروج من الحكومة وتقديم استقالتها.

ان اصابع الامن الاسرائيلي ضالعة بقوة في مثل هذا القرار, فقد نقل موقع تايمز أوف إسرائيل أن جهاز المخابرات الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) لعب دورا مركزيا ومهما في حث بريطانيا على استصدار قرار بتصنيف حركة حماس منظمة إرهابية.

وقد نشط المسئولون الاسرائيليون في الاونة الاخيرة في التنقل بين تل ابيب ولندن لتقديم سجل أمني عن حركة حماس, يشمل كافة نشاطاتها السياسية والمالية والخارجية , فضلا عن تخويف بريطانيا من تواجد اعضاء حماس في بريطانيا وقيامهم بنشاطات معادية لإسرائيل.

وعبر الموقع العبري عن سعادته الكبيرة بالقرار معتبرا ان ذلك يمثل "ضربة كبيرة لحماس، التي تقوم بجمع تبرعات كبيرة في بريطانيا المتحدة"، وفق زعمه.

هناك عامل اخر ساهم في توجه وزير الداخلية البريطانية لاتخاذ القرار وهو تزايد الدعم الشعبي البريطاني للقضية الفلسطينية, لدرجة لم يسبق أن عرفت القضية دعما مشابها في المملكة المتحدة منذ عقود، وهو ما بدا جليا خلال المظاهرات التي خرجت مؤيدة لفلسطين خلال معركة "سيف القدس" .كما ظهر ذلك في التأييد الذي تجده حركة المقاطعة BDS بين البريطانيين، وفي طرد طلاب جامعة لندن للاقتصاد للسفيرة الإسرائيلية .

وقد برزت التخوفات البريطانية الرسمية من تنامي الدعم للقضية الفلسطينية ان ينعكس ذلك على دعم حركة حماس باعتبارها حركة مقاومة, وهو ما يمكن ان يشكل انقلابا في الموقف البريطاني العام . لقد اعتبرت الاجهزة الامنية الاسرائيلية ان هناك عددا من العواصم التي تشكل قاعدة لنشاطات حركة حماس وتمثل لها دعما سياسيا وماليا, ومن ثم تصبح تهديدا كبيرا للامن الاسرائيلي  والذي نشط كثيرا في متابعة نشاطات الجماعات التي تؤيد القضية الفلسطينية ومحاولة محاصرتها وتشويه صورتها ووصمها بالارهاب . وليس ادل من ذلك كشف المجموعات التابعة للموساد الإسرائيلي في تركيا والتي ركزت جهودها على النشاط الفلسطيني في تركيا وتسببت في فضيحة كبيرة لاسرائيل.

تعتبر اسرائيل ان لندن مقر قوي لنشاطات الجماعات الاسلامية في ظل الحرية التي يوفرها المناخ السياسي البريطاني, وبدأت منذ سنوات في تعقب هذه الجماعات والنشاطات التي تقوم بها, خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وحركة حماس , وقدمت الكثير من التقارير للامن البريطاني محذرة اياه من مغبة اغماض العيون عن مثل هذه النشاطات التي تهدد اسرائيل.

ومن العوامل المهمة التي ساعدت في اتخاذ قرار مثل هذا القرار الطائش, تغير البيئة العربية التي كانت تدعم بقوة حركة حماس والمقاومة بشكل عام وتناصب اسرائيل العداء  الى بيئة تحاول تبرير العلاقة والتطبيع دولة الاحتلال , ومن ثم انقلبت على حركة حماس وبدأت في مهاجمتها وربطها بالإرهاب وتشويه صورتها , وللاسف ان موجة التطبيع اثرت بشكل كبير على مواقف الدول الغربية التي اعتبرت ذلك حالة طبيعية تسهم في خلق حالة من الاستقرار في منطقة الشرق الاوسط , فمثلا بعض الدول الخليجية التي فتحت ابوابها لاسرائيل بدأت فورا بمهاجمة حركة حماس وتوجيه الاتهامات لها وبدأت في الترويج للسلام مع الاحتلال واعتبار ان كل عمل مقاوم هو جريمة ضد الانسانية، كما ان  السودان الذي كان يعتبر حليفا قويا للقضية الفلسطينية واستقبل العديد من قيادات حماس, انغمس هو الاخر -بعد الانقلاب الاخير- في وحل التطبيع.

لا يستبعد ان بعضا من الانظمة العربية المهترئة والمتساوقة مع الاحتلال ان تكون لعبت دورا في اصدار هذا القرار , كونها تعتبر ان الاسلام السياسي يمثل لها تهديدا حقيقيا , وسبق لهذه الانظمة ان قامت بحملات معادية لحركات الاسلام السياسي وتعاونت مع انظمة غربية في مواجهة بعض الحركات الاسلامية وتجفيف منابعها وملاحقة مناصريها.

(3) بريطانيا والعداء التاريخي

تاريخ بريطانيا مع القضية الفلسطينية هو تاريخ مجلل بالسواد, فقد استغلت بريطانيا كل مقدراتها السياسية والعسكرية لدعم قوة الاحتلال والدفاع عنها, وسهلت اقامتها عام 1948 من خلال قمع الثورة الفلسطينية ورموزها وملاحقة مناصريها وارتكبت في سبيل ذلك الكثير من المجازر والخطايا السياسية التاريخية بحق الشعب الفلسطيني

وقد اعاد القرار الى سلسلة قرارات معادية أصدرتها الحكومة البريطانية  تجاه فلسطين، بدءا من "وعد بلفور" عام 1917، مرورا بتسهيل عمليات الهجرة اليهودية، وصولا إلى المساهمة في تأسيس دولة إسرائيل عام 1948.

وقد ذهبت بريطانيا بعيدا , وأكثر مما تخيله الصهاينة، وذلك من خلال الدعم والمساعدة على تطوير "الوطن اليهودي" إلى دولة يهودية، بينما غدرت بالفلسطينيين ونكثت بكل تعهداتها لهم. وكان هذا الغدر البريطاني هو ما أثار حفيظة الفلسطينيين فانتفضوا في ما بات يعرف بالثورة الفلسطينية الكبرى والتي استمرت من عام 1936 وحتى عام 1939.

تاريخ طويل لكنه كان تاريخا اضر بالفلسطينيين وبقضيتهم , وفي نفس الوقت وقفت الى جانب دولة الاحتلال وأيدتها في جرائمها وصوتت لصالحها في مرات عديدة في مجلس الامن والجمعية العامة.

ان هذا القرار لن يثني حركة حماس ولا فصائل المقاومة الفلسطينية عن الاستمرار في طريقها ومواجهة دولة الاحتلال بكل الوسائل المشروعة, ويكفي ان كل مكونات المجتمع الفلسطيني بما فيها السلطة والاحزاب رفضت القرار البريطاني ووقفت الى جانب حماس واعلنت استنكارها للقرار. واجه الشعب الفلسطيني طوال مسيرته النضالية والكفاحية الكثير من العقبات والمؤامرات لكنه لم يقف مرة امام هذه التحديات الكبيرة واثبت انه شعب صاحب حق وانه يمارس المقاومة التي تكفلها كل الشرائع والاعراف الدولية , وان الارهاب الحقيقي هو الاحتلال ذاته.

ان الخاسر الاكبر من هذه القرارات الطاشة هي بريطانيا التي فقدت مصداقيتها ونزاهتيها السياسية وهو ما ستجنيه من ثمار مرة في المستقبل القريب.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo