للصبر حدود

شبان يرفعومن علم فلسطين
شبان يرفعومن علم فلسطين

يمكن لأي أمة، أو شعب أن يتعرض للحظات حرجة في تاريخه يحتاج معها إلى شيء من الصبر، وشيء من التنازل عن بعض مقومات الحياة، وهذا وارد خاصة في الحالات التي تشبه حالة الشعب الفلسطيني، الذي تخضع حاجياته إلى المساومة، حيث تبدو المعادلة المعروضة على الفلسطينيين كالتالي:

إن أردتم الحصول على رغد من العيش فعليكم أن تقبلوا بما يعرضه عليكم المحتلون، وإن أردتم الوطن فعليكم أن تتحملوا نتائج وطنيتكم، وأن تصبروا على جوعكم، وانعدام سبل حياتكم.

يدرك الفلسطينيون هذه المعادلة، ويفهمونها، وليسوا بحاجة إلى من يذكرهم بواجباتهم تجاه ما عليهم فعله من أجل وطنهم، ولقد آثروا الصبر على شظف العيش لعقود طويلة، على أن يمنحوا أرضهم لعدوهم، كان ذلك وهم يأملون بأن تُفضي تضحياتهم إلى شيء ما، يعيد لهم بعضاً من حقوقهم.

حتى حينما وافق الفلسطينيون على حلول لا تعيد لهم كل فلسطين، أسموها أولاً حلولاً مرحلية، ثم هي لم تكن بدافع استبدال الوطن بالرفاهية، إنما لأنهم- بعد طول تجربتهم النضالية- وصلوا إلى قناعة أن اللحظة المعاصرة ليست هي لحظة التحرير الكامل، وأن الواجب يستدعي إنقاذ ما يمكن إنقاذه، طالما أن الحصول على كل الحق غير متاح الآن، ويحتاج إلى تغييرات كبيرة، ليس فقط في واقع الفلسطينيين وحسب، إنما في واقع المنطقة أيضاً، وطالما أن بوادر هذه التغييرات غير بادية في الأفق الآن بمعناها الحقيقي، فمن الواجب أن نحمي ما تبقى من فلسطين، وأن نعزز من بقائنا على كل ما نستطيع من الجغرافيا الفلسطينية، وحينما يأذن الله بالتغييرات- إن حصلت- فإن الأقوياء الجدد سيعيدون تعريف الحق، بما يتوافق والحقوق الفلسطينية الكاملة، وليس كما يحاول المتغلبون الآن على العالم والمنطقة من جعله حقاً، وهو أبعد ما يكون عن منطق الحق والعدل، بأن يجعلوا فلسطين وطناً لغرباء ذوي جذور أوروبية خزرية في الغالب، لا يربطهم بفلسطين سوى مزاعم دينية، سقطت هي الأخرى أمام الأبحاث الأركيولوجية المعاصرة.

مرة أخرى:

الفلسطينيون لم يوافقوا على الحلول الوسط بحثاً عن الرفاهية، وإن كانت الرفاهية غاية مشروعة لكل البشر، لكنها مع ذلك ليست هي سبب قبولهم، إنما يقينهم بعدم قدرتهم في اللحظة المعاصرة على استرجاع كل الحق، فآثروا التفكير بإنقاذ ما تبقى من فلسطين، وتعزيز انتشارهم الديمغرافي في كل جغرافيا فلسطينية يستطيعونها.

اقرأ أيضاً:  تفاصيل لافتة.. الشباب اليهود الأمريكيين يدعون لفك الارتباط بإسرائيل

لم تتغير معادلة الواقع الفلسطيني حتى اللحظة، ولا تصرح المؤشرات المستقبلية قريبة المدى بأنهم سيستطيعون تحرير كل الأرض، ربما العكس هو الصحيح، حيث فقدت المنطقة الكثير من عوامل الرهان على المواجهة، بدأ ذلك بسقوط ما يشبه الحليف السوفيتي، ثم بتفكك أهم الدول العربية التي يمكن الرهان عليها، ثم أخيراً هرولة بعض الدول العربية تجاه التطبيع المجاني مع إسرائيل، مما يزيد من تعقيدات الحالة الفلسطينية، وصار هناك الآن ما يشبه الاتفاق الفلسطيني على أن فكرة إزالة إسرائيل من الوجود ليست واقعية الآن، وبالتالي لا بد من التفكير بوسائل جديدة للنضال، ربما يقف على رأسها- من وجهة نظري على الأقل- النضال الديمغرافي، والذي كما يبدو هو سلاحنا الوحيد الآن للتخلص من طبيعة نظام الفصل العنصري، الاحتلالي الإسرائيلي، ما دون ذلك لا تتجاوز وسائلنا النضالية حدود التعبير عن رفضنا لمبدأ الاحتلال، ورغبتنا في الإبقاء على جذوة الصراع، طالما ترفض إسرائيل الاعتراف بأي من حقوقنا، لكنها لن تفضي أبداً إلى الإزالة، وهذا ما بات يعترف به حتى رافعو شعار إزالة إسرائيل.

وسط هذا الواقع شديد التعقيد يربض أهالي قطاع غزة تحديداً في واقع لم يعد يصلح للحياة الآدمية، ولا بحدها الأدنى، ولا بالحد الذي كان الفلسطينيون يستطيعونه طوال عشرات السنوات الماضية للاحتلال، حيث تكاد تنعدم مقومات الحياة تماماً لدى الأجيال الصاعدة، ليس مقومات الرفاهية، إنما الحد الأدنى الذي يقيم صلبهم، حيث لا عمل، ولا وظائف ممكنة، ولا أي بصيص لأي أمل يمكنهم انتظاره ولو بعد حين، فمعدلات البطالة غير مسبوقة، ومستوى الفقر يزداد يومياً، ومتوسط أجور لا يوفر أدنى متطلبات الحياة، وعشرات آلاف الشباب يبحثون عن أي فرصة للهجرة ولو إلى المجهول، على اعتبار أي مجهول لن يكون أسوأ من واقعهم المعلوم.

كل هذا الواقع تقابله الحكومة هنا إما بتذكير الناس بضرورة الصبر على واقعهم تحت الاحتلال، وإما بتوجيه اللوم على جهات أخرى تساهم في حصار قطاع غزة، والحقيقة أن لا أحد ينكر واقع الحصار، لكن السؤال الذي يؤرق فقراء غزة هو: حصار من أجل ماذا؟ هل يمكن لغزة مثلاً أن تحرر فلسطين، وبالتالي يستحق ما تعدنا به أن نصبر أكثر؟ أم أن غزة انحصرت هي الأخرى داخل جغرافيتها المتواضعة التي لا تتجاوز 1،3% من فلسطين، وأنها لن تستطيع التمدد تجاه فلسطين، بمعنى أنها حقيقة لن تستطيع التحرير، ما يعني التأكيد على ذات السؤال: الحصار لماذا، فإن كان لمجرد تثبيت أركان الجهة الحاكمة، وإبقائها في الحكم، فإن هذه الغاية لا تستحق التضحية بمبدأ الحياة، تحت ضغط الجوع، والفقر، وانعدام الأفق، والمستقبل.

ثم إلى متى؟

فإن كان الفلسطينيون صبروا على فقدانهم لترف العيش طوال العقود السابقة أملاً في شيء ما، فإنهم لن يستطيعوا التخلي ليس عن الرغد، إنما عن أبسط مقومات الحياة، هذه المرة ومن أجل لا شيء، إلا تثبيت واقع الانقسام الذي لا ذنب للفقراء به.

أسوأ من كل ذلك هو التلويح دائماً في وجه الفقراء بأن أي محاولة احتجاجية سيتم تصنيفها كمحاولة تآمرية، موجهة من أطراف معادية، وأن على الراغبين في الاحتجاج أن يصبروا أكثر على ما يصر الحاكمون هنا على تسميته بالحصار، أو توجيه غضبهم فقط تجاه الجهات المحاصِرة، أما أي محاولة احتجاجية ضد الحاكمين الفعليين فسيتم التعامل معها بوصفها تآمر على المقاومة، والجهة الوحيدة القابضة على الجمر، دون أن تنتبه هذه التعبيرات إلى خطورة استخدام مسمى المقاومة، وإشهاره كسيف في وجوه الفقراء، وفاقدي الأمل، الذين لا يمكن إنكار وجودهم، وتفاقم أزمتهم يوماً بعد يوم..!

فهل سيستطيع الفقراء تحمل واقعهم هذا إلى سنوات أخرى ستستنزف كل أعمارهم، وتقضي على مستقبلهم؟ أم أن على الجهات النافذة أن تعترف أن لصبر الناس حدوداً لا يمكن تخطيها؟

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo