ملابس القيادات الداخلية

بيع الملابس القديمة
بيع الملابس القديمة

لا يوجد عاقل في غزة يجتهد ليقوم بالتدليل على وجود حالة الفقر واستفحالها في المجتمع، لأنها حالة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء – لا أعرف من قائل هذه الجملة (في كبد السماء) لكنها على أيِّ حال معبرة عن المقصد المراد في هذا المقال.

في الثمانينيات وما تلاها من أوائل سنوات التسعينيات، وتباشير وجود سلطة الحكم الذاتي، كان الفلسطيني يعيش في "بحبوحة" من أمره، خاصة فئة العمال سواء، الذين كانوا يعملون داخل الخط الأخضر، أو أترابهم الذين عملوا داخل قطاع غزة والضفة الغربية، ولأننا أصبحنا الآن حكومتين ودولتين في قطاع غزة والضفة الغربية (خمسة وخميسة) سأكتفي بالحديث عن قطاع غزة، لأنني لا أعرف شيئًا عن الوضع في الضفة الغربية التي لم أدخلها، ولم يدخلها معظم سكان قطاع غزة ما دون الأربعين عامًا، لكنني أعتقد أنهم يشترون الملابس الداخلية بشكلٍ منتظم!

يحدثني صديق لطيف عن استغرابه من وجود الكثير من سيارات الجيب الكبيرة في غزة، رغم حالة الفقر الظاهرة جليًا بين الناس، ويسألني عن السبب، وكأنني "أبو العريف" فاستغربت من استغراب صديقي وسألته: هل تعلم عدد المسؤولين والقيادات في غزة؟! عندما سمع صديقي الجواب كاد أن يسقط أرضًا من الضحك، وليس كل الضحك مراده السعادة!

اقرأ أيضاً: ارتفاع أسعار السلع يضع القدرة الشرائية للفلسطينيين على المحك

السائر في شوارع المدينة يُصاب بالحيرة، فلا تكاد تمر بضعة شهور حتى يقوم تاجر بلا تجارة واضحة، أو وزير بلا وزارة حقيقية بافتتاح مول تجاري، أو مقهى غربي، أو مطعم على الطراز المنفلوطي، وهذا موسم مهم لأن تشاهد تناقض المدينة الواضح، بين الغنى والفقر، فسيارات الجيب الكبيرة التي تحدّث عنها صديقي تظهر وقت الافتتاحات، ففي الافتتاحات – بلا مؤاخذة – تُقدَّم الضيافة، مصحوبة بالكاميرات وجُمل التقدير المزيفة، والرياء المقزز، والقيادات والمسائيل يحبون التقدير المقدم لهم بشكل طازج ومجاني، ليس لفقرهم المالي – حاشا لله – بل لفقر ماء وجوههم، لأنهم يشعرون في هذا التصرف بالعلو والسمو والحاجة الدائمة إليهم، وهذا مجال يطول فيه الشرح، لأنه يعتمد بالأساس على السيكولوجية الشخصية وأسس علم النفس.

ومن باب: اجعل لك في كل خرابة عفريت. صار لي عفاريت في هذه المناطق وغيرها، يُخبرونني عمّا يدور فيها من رياء وتوسل وصور جماعية، وتوسطات، وأحد هؤلاء العفاريت الذي يعملون في مول تجاري قال لي أن (السَّحب) على الملابس الداخلية يزداد، وهذا يرجع للعدد الكبير من القيادات والمسائيل محدثي النعمة الذين جمعوا ثروتهم من جيوب الناس، ويشترون بها الملابس الداخلية بشكل متزايد، هذا عوضًا على شراء الملابس الأخرى، خاصة التركية منها، وهي بالمناسبة ماركات متواضعة جدًا مقارنة بغيرها من الماركات العالمية التي تهتم بعض المحلات القديمة بجلبها بعدد قطع معينة، ويبدو أن هذه القطع لقيادات ومسؤولين قدماء كانوا يعرفون لحمة الكتف جيدًا وجار عليهم الزمن ولم يعد بمقدورهم السفر لعمل (شوبنق) في نيويورك ولندن وباريس ومدريد على هامش مباحثاتهم السياسية لتحرير فلسطين!

لقد أثار فضولي هذا العفريت، فمع انتشار المُولات التجارية الكبيرة التي تأخذ وكالات ملابس عالمية، راحت تزدهر في غزة محلات الملابس المستعملة "المخراز" بشكل جعلها تنافس محلات بيع الملابس الشعبية الجديدة سواء المحلية منها أو المستوردة من الصين وجاراتها، وهذه الملابس لمن لا يعرفها - ولا أعتقد أن أحدًا من غزة لا يعرفها، وإن كان بعضهم يتنكر لها عملًا بالمثل المصري القائل: "أموت عليه .. وأخييه عليه" هي ملابس مستعملة ومنها ما هو تصفيات مواسم، أغلبها ماركات عالمية أصلية كالذي يعرفها خبراء لحمة الكتف، تأتي من داخل دولة الاحتلال ويتم فرزها في غزة حسب الجودة، وبعد ذلك تعرض في المحلات أو الأسواق الشعبية الأسبوعية أو محلات الحواري تبعًا لجودة القطعة، وهذا بالمناسبة لا يقتصر على الملابس، بل على جميع مستلزمات العيش في غزة، من مكيفات الهواء، حتى أقلام الرصاص مرورًا بالمكياج والملابس الداخلية الرجالية منها والستاتيّة.

هذه المحلات بما فيها من ملابس متنوعة أضحت وجهة لأغلب أفراد المجتمع في غزة، وهذا أولاً لأنها رخيصة الثمن، وثانيًا ماركة، أي أن الفرد يشبع غريزة الفضول لديه بثمنٍ قليل، "وعنوا ما حدا حوّش"

عودة إلى ملابس القيادات الداخلية، فقد أخبرني عفريت آخر في محلات الملابس المستعملة أن الكثير من النساء أصبحن يشترين الملابس الداخلية الرجالية المستعملة، عوضًا على ما يأخذنه من ملابس نسائية من محلات بيع الملابس المستعملة، وهذا لم يكن يحصل في السابق بهذا الشكل، بل أن التجار لم يكونوا يستوردون تلك الرجالية من الأصل، لكنهم أصبحوا يجلبونها بكميات كبيرة بسبب الطلب المتزايد عليها، وهذا يأخذنا إلى مؤشر لأحد أعلام التجارة وهو "آلان غرينسبان" رئيس البنك المركزي الأمريكي الأسبق، الذي ربط بين مبيعات الملابس الداخلية للرجال، وجودة أداء الاقتصاد تحت قاعدة أن الناس تؤجل شراء ملابسها الداخلية الجديدة عندما يدخلون في ضائقة مالية. وذلك لأن الرجال يتوقفون أولاً عن شراء هذه الملابس عند تأزم حالتهم الاقتصادية، وهذا ربما ما دفع النساء لشراء تلك الملابس الرجالية من المحلات المستعملة من باب التدبير الذي تجيده النساء بشكل ممتاز.

وهنا أصبح لدينا إجابة جديدة على استغراب صديقي في أول المقالة من عدد سيارات الجيب في قطاع غزة، فقد تبين أن الزيادة ليست فقط على سيارات الجيب الحديثة، بل على الملابس الداخلية المستعملة، ذات الماركة العالمية أيضًا، يقابله تراجع في شراء الملابس الداخلية الشعبية ذات الصناعة المحلية والمستوردة من دول الجوار، ونزوح العديد من الرجال والنساء والأطفال إلى الملابس الداخلية المستعملة.

وبهذا نصبح في غزة مجتمعين منفصلين تمامًا: من أنواع المواصلات، إلى أنواع الملابس الداخلية وصولًا لساعات وصل الكهرباء وجودة الماء وأماكن الترفيه، ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نتقدم للأخوة قيادات ومسائيل الشعب الفلسطيني بكامل التحية والتقدير على تحرير الناس من ملابسها الداخلية الجديدة! وكل العرفان للحصار الذي ألبس الناس الملابس المستعملة، وألبس المسؤولين الماركات العالمية.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo