وعد بلفور

هجرة الفلسطينيين
هجرة الفلسطينيين

هل يغفر الفلسطينيون لبريطانيا؟

"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".

دأب الفلسطينيون على وصف وعد بلفور المشئوم بأنه وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وهو وصف دقيق بكل ما تعنيه الكلمة، فلا بريطانيا كانت تملك فلسطين، ولا كان من حقها التصرف بفلسطين، ولا ليهود العالم الذين تعود جذور معظمهم إلى أصول خزرية الحق في إقامة وطن قومي خاص بهم من دون الآخرين في فلسطين.

اقرأ أيضاً: إدارة بايدن و"وعد القنصلية".. بين الالتزام والتسويف

علقت إحدى صديقاتي على الفيس بوك على مقال سابق لي بقولها: إنها دائماً تقول للألمان الذين تعيش بينهم أن فلسطين هي الهولوكوست الأوروبي الثاني، وللحق فإن جريمة إنشاء وطن قومي لأتباع دين معين على أراضٍ لا يملكونها في فلسطين هي الهولوكوست الأول، حتى وإن جاء الإعلان الرسمي عن الكيان الجديد متأخراً من حيث التاريخ عن هولوكوست الفاشية الأوروبية، فالقرار رسمياً صدر قبل الهولوكوست الفاشي بعقدين من الزمن، وقبل الإعلان الرسمي عن قيام ما تسمى بدولة إسرائيل بثلاثة عقود، بل إن التجهيزات الأولى للهولوكوست الفلسطيني  سبقت الإعلان الرسمي عن وعد بلفور، حيث بدأ التسرّب الفعلي ليهود العالم قبل بلفور بعدة عقود.

ما الذي حدث في الهولوكوست الفاشي؟

برغم كل ما قيل، ويقال عن الاختلاف في أعداد القتلى اليهود في الهولوكوست، أو طريقة قتلهم، أو استعبادهم، أو مجرد التضييق عليهم لمجرد انتمائهم لدين مختلف، أو عرق مختلف، فإنني كفلسطيني ذاق مرارة الاقتلاع من الأرض، والطرد، والقتل، والتهجير، ورفْض الاعتراف بي كإنسان كامل الحقوق لن أتوانى في إدانة الجريمة التي ارتكبتها النازية الأوروبية مع اليهود، ولا يمكنني إلا أن أتعاطف مع محنتهم في أوروبا، فهي جريمة ستظل محفورة في وعي التاريخ، ويجب أن نواصل وصفها كجريمة ضد الإنسانية، وضد القيم، والأخلاق، والحياة ذاتها، حتى وإن فعل بنا ضحاياها مثلما فُعل بهم، فإننا لن ننزلق إلى حد تبرير، أو التقليل من قبح هذه الجريمة، لكني كفلسطيني أطالب العالم بأن يلتفت إلى جريمة أخرى لا تقل بشاعة، سبق التخطيط لها هولوكوست النازيين، ونتج عنها مأساة أكثر بشاعة، مئات القرى الفلسطينية الآمنة تم تدميرها، ومئات الآلاف من القتلى، والجرحى، وسبعة مليون فلسطيني يهيمون على وجوههم في شتات الأرض، لا يعترف لهم أحد بوطن، ولا بالحق في التفكير في بناء وطن، وكأنهم مخلوقات متطفلة، أو فضائية، أو من كوكب آخر، هبطوا على الأرض عن طريق الخطأ، وعلى العالم أن يعيدهم من حيث أتوا..!

في هولوكوست النازيين كان اليهود يُقتلون على الدين، وفي الهولوكوست الفلسطيني كان الفلسطينيون يقتلعون من جذورهم أيضاً لأنهم لا ينتمون إلى ذات دين الفئة التي تعاطفت معهم حكومة صاحب الجلالة البريطانية، صاحبة القلب الرحيم..! وكان على الفلسطينيين أن يختاروا بين أن يقبلوا بالتنازل عن حقوقهم السياسية في أرض تاريخهم للوافدين الجدد، بينما يتكرم الوافدون الجدد بالاعتراف بحقوقهم الدينية والمدنية وحسب، أو أن يُقتلعوا تحت النار من أرض تاريخهم، أو أن يُقتلوا، بينما يقيم الوافدون وطناً لكونهم يهود، حتى وإن كان جلهم لا ينتمي إلى أي جذور فلسطينية، ولا حتى قبل آلاف السنين، بل إلى جذور خزرية تعرفها حكومة صاحب الحلالة ذات القلب الرحيم..!

وبكل وقاحة ينص الوعد المشئوم على مجرد حفظ الحقوق الدينية والمدنية لباقي الطوائف..! دون أن يعترف بأن هذه التي يسميها طوائف هي من تسكن الأرض طوال آلاف السنين، بينما لاحظوا كيف ينص على عدم المساس بالحقوق أو الوضع { السياسي } لليهود في العالم..! إن بريطانيا كانت تتصرف كإله يهب أرض قوم لقوم آخرين، ويعترف لقوم بحقوق متدنية، ويرفع لآخرين مستوى الحقوق الذي يحق لهم التمتع بها، وكل هذا لم تفعله بريطانيا على أرضها، ولا في حدود وطنها، إنما في أراضي الآخرين..!

سبعة مليون هائم فلسطيني يجوبون بقاع العالم بحثاً عن أرض تأويهم، وسبعة مليون آخرين تصر إسرائيل على عدم الاعتراف بهم كشعب، وتعاملهم كمخلوقات ليست بشرية، لمجرد أنهم لا ينتمون إلى دين دولتها، رغم أنهم فلسطينيون سكنوا فلسطين لآلاف السنين.

والغريب أن العالم الذي يئن تحت وطأة عذاب ضميره من هولوكوست النازيين يواصل دعمه لهولوكوست آخر لم تنته بعد آلامه، وجراحاته، حيث لا يزال الفلسطينيون الأربعة عشر مليوناً موزعين بين الشتات، وبين الخضوع لنظام حكم يرفض الاعتراف لهم بحقوقهم السياسية، ويمارس عليهم أبشع أشكال التمييز العنصري، فهو يحكمهم فعلياً داخل حدود الدولة التي يحكمها، لكنه يميز بينهم وبين مواطنين آخرين لأنهم ينتمون إلى دين آخر، فأي ضمير أوروبي هذا الذي يحدثوننا عنه؟ بل أي ضمير إنساني؟ يتباكى على هولوكوست اقترفته أيديهم، ويدعمون هولوكوستاً آخراً اقترفته أيديهم أيضاً، فهل قَدرُ الأوروبيين أن يواصلوا ارتكاب هولوكوست  تلو الآخر في حق البشر الآخرين؟!

إن كان هناك بقية من ضمير لهذا العالم، أو بقية من ضمير لمرتكبي الهولوكوست الفلسطيني واليهودي، فإن عليه أن يسعى لتصويب خطئه، بل جريمته، ولن يكون ذلك بغير الاعتراف أولاً بالجريمة، ثم ثانياً بالاعتراف للفلسطينيين بحقهم في أن يتساووا مع البشر الآخرين في هذه الدنيا، بأن يبنوا لأنفسهم وطناً في أرضهم، وليس في أراض الآخرين، بعد أن يُسمح لمن يرغب منهم بالعودة إلى وطنه الذي اقتلع منه، أو على الأقل أن يُعاد تعريف فلسطين ليس كوطن قومي لليهود لأنهم يهود، وإنما كوطن لكل ساكنيه، على ذات درجة المساواة الإنسانية، وأن يُفتح باب العودة للمهجرين، وليس لأتباع دين لا تربطهم بفلسطين أي صلة سوى مجرد مزاعم دينية تنتمي إلى ما قبل آلاف السنين.

إن الفلسطينيين لن يغفروا لبيريطانيا، ولا لكل المشاركين في الهولوكوست الفلسطيني، إلا إن تم تصويب وضعهم، والاعتراف بهم كمُلّاك حقيقيين لوطنهم التاريخي، أو- كما قلت أعلاه- الاعتراف بفلسطين كوطن لكل ساكنيها، بغض النظر عن دينهم، أو عرقهم، وأن يسمح للمُهجّرين قصراً منهم بالعودة، لا أن تُمنح المواطنة لغرباء لا يربطهم بفلسطين سوى مزاعم تاريخية، أو كونهم من ذات دين الدولة التي أُنشأت على أنقاض الآخرين.

هذه هي الطريق التي على الضمير العالمي أن يسلكها بحثاً عن الراحة، إن كان هناك بقية من ضمير، وإن كنا نشك في ضمير الحكومات، فإننا نثق بأن الشعوب تتبع الخير بفطرتها، إن اتضحت لها الصورة على حقيقتها، وأزيلت الصورة المزيفة، المصطنعة التي خلقها إعلام صانعي الهولوكوست.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo