تقرير فخار غزة.. زادت طلباته وما قلت مشاكله!

فخار غزة
فخار غزة

ثمانية من أصل نحو خمسون، هي الإرث التاريخي المتبقي من مصانع الفخار في قطاع غزة أو ما يطلق عليها "الفواخير"، والتي تحمل عبق وأصالة التراث الفلسطيني.

وتُعد صناعة الفخار في فلسطين من أقدم المصنوعات الشعبية، ويعود تاريخ نشأتها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، علماً أن مدينة غزة من أوائل المدن الفلسطينية التي قامت بصناعة الفخار، وتبعتها مدينة الخليل ثم مدينة طولكرم.

ويخشى أرباب هذه المهنة اندثارها، رغم ما تحظى به مصنوعاتهم من رواج وتزايد الاقبال عليها من الأغنياء قبل الفقراء ودخولها في مجالات عديدة وجديدة، وخاصة لدى المطاعم الفاخرة ومتاجر الزينة وفي الأعمال الفنية.

8.jpg

وتولدت خشية هؤلاء من قلة ممتهنيها وصعوبة توفير المواد الخام وغلاء المحروقات، وكذلك تدني أسعار مصنوعاتهم والمنع من تصديرها، فضلاً عن شكواهم من ملاحقة السلطات المحلية "البلديات" لهم، بسبب شكوى المواطنين من الانبعاثات الدخانية الصادرة من أفران أو محارق "التنور".

إحصاء ميداني

ولا تتوفر إحصاءات رسمية لعدد مصانع أو مشاغل الفخار والعاملين في هذا القطاع، وذلك لاقتصار المهنة غالباً على التوريث العائلي، وعدم اهتمام أصحابها بتشكيل جسم نقابي يمثلهم أو إتحاد يرعى مصالحهم.

غير أن "زوايا" أجرت زيارات ميدانية لهذه المصانع المتواضعة الإنشاء والإنتاج في قطاع غزة، فتبين أنه ما يزال يتربع على عرش هذه المهنة  ثمانية "فواخير"، ستة منها تعود لعائلة عطاالله، أربعة منها متلاصقة مع بعضها في شارع النفق وسط مدينة غزة، والخامسة مقامة شرق مدينة دير البلح، في حين أن السادسة منشأة في بين لاهيا شمال القطاع.

أما السابعة فهي منشأة في شارع علي بن طالب في حي الزيتون بغزة، وتعود للفوا خري ياسر عزام، في حين أن الفاخورة الثامنة متواجدة في شارع الوحدة ويمتلكها الحاج أبو باسل حجا.

ووفقاً لإفادة كل صاحب منشأة من هذه الفواخير، فإن معدل العمال "المهنيين" لديهم لا يزيد عن اثنين أو ثلاثة، ما يعني أن عدد العاملين في هذا القطاع لا يتجاوز العشرون عاملاً، لكن من المؤكد أن عدد نقاط البيع والتجار العاملين في تسويق الفخار يتجاوز هذا الرقم إلى أحد أكبر.

4.jpg

ويقول المهني أيمن عطالله، أن والده وثلاثة من أعمامه ورثوا صناعة الفخار من جده الحاج "مصطفى محسن عيسى عطاالله"، لافتاً أن معظم العاملين في هذه المهنة هم من أشقائه وأبناء أعمامه وأنجالهم.

وذكر أن القدرة الانتاجية في اليوم الواحد لمصنعهم حوالي ٥٠٠-٦٠٠ قطعة فخار مختلفة الأصناف، الأشكال، الألوان، الأحجام، والأوزان، مشيراً إلى أن معظم تركيزهم في صناعة الأواني الصغيرة مثل "الزبدية" لانخفاض سعرها وزيادة الطلب المحلي عليها.

وبشكل سريع، حاول عطالله شرح كيفية صناعته للفخار، مبيناً أنه يُصنع من الطين الصلصالي، حيث يخلُط الماء بالأتربة في داخل حوض مخصص لذلك، ثم يتركه عدة أيام حتى يجف الحوض من الماء، ومن ثم يقوم بأخذ الطين الذي لا زال يحتفظ برطوبته، حيث يسهل عجنه وتشكيله بأشكال عدة.

وأردف أنه يقوم بتقطيع الطين إلى قطع بحسب شكل وحجم الآنية التي يريد صناعتها، ويضعها على قاعدة متحركة تدور بفعل آلة قديمة صنعت يدوياً، ومن ثم يُقلب كتلة الطين بأصابعه المبللة بالماء ويشكلها كيفما يشاء.

 وبعد اكتمال شكلها يتم نشرها تحت أشعة الشمس لمدة أسبوع كي تجف من الماء، وتأتي المرحلة الأخيرة لشوي الأواني داخل فرن بدائي "التنور" الذي تصل درجة الحرارة فيه إلى 900 درجة مئوية، وإذا ارتفعت درجة الحرارة أكثر فإن الأواني تتشقق وربما تتكسر.

وأوضح عطالله، أن لون الفخار الطبيعي هو الوردي الذي يميل للأحمر بحسب لون الطين والتربة، لكنه أحياناً وبحسب الطلب، يصنع الفخار الأبيض بفعل خلط الملح مع الطين، لافتاً إلى أن هناك فخار أسود يُستخدم من أجل تلوينه بالدخان الأسود المنبعث من النيران، وخاصة حين يتم إغلاق فتحات محرقة "التنور" بالكامل.

التسويق والتصدير

وفي شارع الفواخير الشهير في مدينة غزة، يتكئ بائع الفخار الستيني أبو رزق العسلي على مرتبته من قلة الإقبال على شراء الفخار- كما يقول-حيث استجمع ذكرياته في الحديث لــ"زوايا" عن حركة البيع والشراء النشطة التي كان يتمتع بها الشارع في سنوات مضت، فضلاً عن التسويق للداخل الفلسطيني المحتل بكميات كبيرة.

1.jpg
وأوضح العسلي أن الفخار الكبير مثل "السندان الزراعي" الكبير يجني أرباحاً أكثر في حال تم فتح المعابر الإسرائيلية أمام تسويقه من قطاع غزة للضفة الغربية أو تصديره الخارج، محذراً من تراجع هذه الصناعة بسبب العزوف عن امتهانها، ومن عدم جدواها المادية في ظل الإغلاق الدائم للمعابر أمام الفخار الكبير الذي يعود عليهم بالفائدة، فضلاً عن تردي الأوضاع الاقتصادية في القطاع.

وبينما كان العسلي يعدد الأصناف المعروضة في متجره الكبير، أوضح العسلي أن اللون الأحمر من الفخار هو الأكثر طلباً لدى الزبائن وخاصة من أصحاب مطاعم الأسماك والفول والحمص، حتى أن المطاعم الفاخرة أضحت تقدم وجباتها في أواني فخارية مثل "الزبدية والطاجن"، منوهاً إلى أن أصحاب المطابخ يتجهون لشراء "القدر" ذات اللون الأسود بكل أحجامها.

وأرجع العسلي الاتجاه والتحول الكبير للأواني الفخارية، للمذاق الطيب الذي يكون بداخلها الطعام، واحتفاظها بسخونة الوجبات المقدمة للزبائن من جانب واحتفاظ بعضها ببرودة المياه من جانب آخر، فضلاً عن الشعور حين التناول بأصالة الماضي وتراث الآباء والأجداد، مضيفاً "والله ما بعجبني إلا حجتي-الزوجة- تضع لي الأكل فيها، ولا بحب أشرب إلا من مياه القُلة أو الإبريق الفخاري".

كما ذكر العسلي، أن بعضاً من زبائنه سواء أصحاب المحلات التراثية أو الزينة أو حتى المواطنين الهواة يحبون اقتناء الأواني الفخارية و المجسمات سواء بلونها الطبيعي أو بالألوان المزركشة، وذلك لأجل العرض والزينة في بيوتهم، حيث نوصي أصحاب الفواخير بتصنيعها لهم خصيصاً، لافتاً إلى أنه لا تخلو منطقة أو سوق في قطاع غزة إلا وتجد فيها متجراً خاصاً أو ملحقاً به يبيع الأواني الفخارية.

6.jpg


 

وأثنى على حديث العسلي، محمود أبو حصيرة صاحب مطعم السلام على شاطئ بحر غزة، مبيناً أن معظم وجباتهم وخاصة الأسماك يتم تقديمها للزبائن بالأواني الفخارية، عاداً أن أذواق الزبائن باتت تتقبل طعم وشكل الوجبات بالفخار أكثر من غيرها.

وأفاد أبو حصيرة أن بعض بائعي الذرة المسلوقة على كورنيش البحر وكذلك بعض أصحاب محلات الحلويات، أدخلوا أكواباً وأطباقاً فخارية في عملية تقديم منتجهاتهم للزبائن.

اشتراطات تعجيزية

وكمن سبقوه، يشتكي الفواخري ياسر عزام، من صعوبة تسويق وتصدير منتجهم إلى الداخل المحتل من فلسطين والخارج، عازياً ذلك إلى الاشتراطات التعجيزية التي وضعتها السلطات الإسرائيلية، علماُ أنه تقدم هو وزملائه في المهنة بطلب تسويق الفخار الكبير للضفة قبل سنوات.

ونوه إلى أن الاحتلال اشترط  تحميل الفخار الكبير في الشاحنات "رصة" واحدة فقط، الأمر الذي لا يُمكنُهم من تحميل الأعداد والكمية المطلوبة التي تغطي تكاليف النقل الباهظة، مؤكداً أنه لو أتيحت للفواخرية فرصة التسويق والتصدير، فإنهم على استعداد لإنتاج كميات أكبر وأجود من الوقت الحالي.

وحول ما إذا كان هناك فخار مستورد يدخل قطاع غزة وينافس منتجهم؟ أكد عزام أنه ليس هناك ما يستدعي الاستيراد أصلاً، حيث أن منتجهم يغطي حاجة السوق المحلي وبزيادة، على حد تعبيره.

وعبر عزام عن خشيته من اندثار مهنة صناعة الفخار في غزة قائلاً بالفم الملآن "أتوقع أنه في ظرف عامين أو ثلاثة لن يتبقى أي فاخورة ولا عامل في مجالها"، مُرجعاً ذلك إلى عدة أسباب ومنغصات سوف تُدمر حتماً مهنتهم، كما يصف.

2.jpg

وحدد أهم العوامل التي يمكن أن تحول دون استمرارهم، وتتمثل في عدم توفر المواد الخام مثل "تضاءل كميات الطينة الحمراء التي تقوم عليها صناعة الفخار بشكل رئيسي، والتي يتم جلبها من الحدود الشرقية، وما يترتب على ذلك من غلاء أسعار المتوفر منها".

أما العامل الآخر –حسب عزام- فهو ارتفاع أسعار المحروقات الخاصة بمحارق "التنور" مثل الأخشاب والزيت المحروق وخاصة غلاء "جفت الزيتون" في الوقت الحالي بسبب ضعف موسم الزيتون وعصر زيته هذا العام، لافتاً إلى أن نقلة الجفت تكلفه 500$ بينما كان يشتريها سابقاً بـ200$.

محاذير صحية وبيئية

وينفي عزام في السياق، أن يكون يستخدم لإيقاد محرقته "التنور" غير الأخشاب والزيت المحروق وجفت الزيتون، كما يفعل غيره باستعمال المواد بلاستيكية أو الكوشوك، والتي تؤثر بشكل مباشر على الصحة عند الاستعمال في الطعام من ناحية، وتؤثر على البيئة والصحة لدى انبعاث واستنشاق الأدخنة الناتجة عن التنور من ناحية أخرى.

وقبل الانتقال للمطروح سالفاً، ومواجهة الجهات ذات العلاقة بالمحافظة على البيئة والصحة العامة مثل "البلدية" والمختصين، كانت "زوايا" نقلت لتلك الجهات عينة بسيطة من آراء السكان المحيطين بالفواخير، والذين عبروا عن انزعاجهم من الانبعاثات الدخانية الضارة لصحتهم.

فقال (أ.د) "إن كمية الدخان التي نستنشقها جعلتنا نفكر في بيع شقتنا"، مطالباً البلدية بوضع حل لهذه المشكلة"، في حين قال (س.ح) أن الأمور صعبة إلى حد لا يطاق، فحين نرى التنور مُشتعلاً، نُسارع بإغلاق الشبابيك"، أما المواطن (م) فقد اكتفى بالدعاء بالهداية لأصحاب الفواخير، وأن يرزقهم بعيد عنا"، عاداً أن مشكلتهم تحتاج لحل جذري".

7.jpg

جميع ما سبق من شكوى،  لم ينكره عزام قائلاً " كثيرة هي الشكاوي التي يقوم بها السكان على أصحاب الفواخير، وكثيرة هي الإخطارات التي ترسلها البلديات إلى حد إغلاق بعضها، ولكن لا يوجد بديل آخر"، مضيفاً " اشهد الله وأشهدكم أنه على صعيدي الشخصي لا أستعمل أياً من المحروقات الضارة بالمطلق"، مطالباً البلديات بتوفير مكان جامع لهم بعيد عن السكان ولكن بأجور رمزية!.

مغلق بأمر البلدية

هذا الجزء من التذمر والشكاوي، اعتبرته بلدية غزة واقعياً، وعادة ما يؤخذ به ويتم إخطار أصحاب هذه المصانع و الفواخير بالخصوص، ودعوتهم للتقليل من فترات إشعال التنور وتحذيرهم من استعمال محروقات ضارة مثل البلاستيك. 

ومن حيث انتهى عزام في مطلبه،  فقد رد حسين عودة مدير العلاقات العامة والإعلام في بلدية غزة، قائلاً " إن البلدية ليست الجهة المطلوب منها إيجاد أماكن بديلة لهم، ولكن دورنا الأبرز من خلال قسم المهن والحرف في البلدية متابعة الشروط التنظيمية  و الصحية لترخيص مثل هذه المهن".

وكشف عودة لـ"زوايا" أنه البلدية تقوم من حين لآخر بإشعار وإخطار أصحاب الفواخير التي تنبعث منها الأدخنة بالتوقف عن هذا الفعل  الضار بالسكان القريبين منها، لافتاً إلى أنه مؤخراً تم عمل لهم "إغلاق إداري "، علماً أن القرار لا يصل إلى حد الحبس.

غير أن عودة أكد أن بعضهم ما زال يُخالف القرار حتى ذلك الحين، حيث يستغل هؤلاء أوقاتاً معينة لإشغال أفران "التنور" بالمواد الضارة مثل البلاستيك والكوشوك، مشدداً على أنه لا تهاون فيما يخص صحية وحياة المواطنين.

وحول البديل، أوضح عودة أن البلدية أبلغت المخالفين بضرورة البحث عن منطقة صناعية بديلة عن لإنشاء هذه الفواخير داخلها، أو أن يستخدموا أنماط وطرق للحرق لا تضر بالسكان، على حد تعبيره.

ومن ناحيته، أكد علي الحايك رئيس إتحاد الصناعات الفلسطينية، أن مهنة وحرفة الفخار مسجلة لدى اتحادهم، ولكن أصحابها لا يبادورن لتصويب أوضاعهم القانونية وتحديث بياناتهم وتجديد العضوية داخل الاتحاد.

ويؤيد الحايك الإحصاءات الميدانية التي توصلت لها "زوايا" وذكرتها سالفاً، لافتاً إلى أن الأرقام تقريبية جداً لما هو متوفر ومسجل لدى الاتحاد من بيانات ومعلومات حول حرفة صناعة الفخار، علماً أن أنها ليست محدثة طالما لم يُصوب أصحاب الفواخير أوضاعهم داخل الاتحاد.

وقال "للأسف تعودنا كمواطنين أو تجار أو صناعيين وحرفيين أن لا نلجأ إلى مؤسستنا إلا وقت النكبة، أما طالما أمورنا ماشية و داحلة ما حد مدور"، داعياً أصحاب الفواخير إلى الاندماج داخل الاتحاد والبحث سوياً عن حلول لمشكلتهم مع الجهات ذات العلاقة، على حد تعبيره.  

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo