"من أجل أولئك الذين يقاتلون (السرطان) ومن أجل أولئك الذين ماتوا، ومَن نجوا، يُضيئ مقر جيش الدفاع الإسرائيلي باللون الوردي"
هكذا عبّرت دولة الاحتلال عن تضامنها مع مرضى السرطان في العالم، من خلال إضاءة وزارة دفاعها (حربها) باللون الوردي بمناسبة بدء فعاليات شهر التوعية بسرطان الثدي في أكتوبر/ تشرين الأول.
سُخرية ما بعدها سخرية، دولة العنصرية بعد أن احتلت الأرض وأفشت فيها سرطان المستوطنات، وسرطان الجسد، تأتي اليوم لتتضامن مع المرضى، أي أنها تقتل القتيل وتمشي في جنازته.
طيلة سنوات طويلة حاصرت إسرائيل قطاع غزة، وألقت عليه ألاف الأطنان من مختلف أنواع القنابل والصواريخ المحرمة دوليًا في حروب مُدمرة نتج عنها إشعاعات خطيرة أدت إلى ظهور أمراض لم تكن غزة لتعرفها لولا توحش هذا الاحتلال!
في السابع عشر من شهر ابريل من العام 2018 سمح الاحتلال بسفر الطفلة عائشة اللولو ذات الخمس أعوام إلى مدينة القدس لتلقي العلاج.
إلى الآن المشهد إنساني جدًا، ولكن لنرجع قليلًا لنأخذ صورة مكبرة لمغادرة الطفلة لمعبر إيرز لتلقي العلاج.
اقرأ أيضاً: المفكر السياسي د. مروان المعشر: حل الدولتين انتهى للأبد والرهان على أمريكا خاسر
كان الأب يحمل طفلته إلى السيارة التي سوف تقلها إلى داخل المعبر، وبينما تسير السيارة أمامه وتبتعد كان الألم يخطف قلبه والدموع تُظلل سماء عيناه، والأم كذلك، كانت تشعر بخواء في صدرها، وكأنها قُتلت للتو ألف مرّة.
على ما أملك من موهبة إبداعية في الكتابة، لكنني لا أملك المقدرة على وصف المشاعر التي انتابت الأم والأب في تلك الساعة وهما يودعان طفلتهما لتذهب وحيدة لتقلي العلاج من السرطان، يكفي لك أن تتخيّل المشهد فقط، وسوف تُسعفك إنسانيتك على البكاء بشكلٍ تعرف فيه كم كانت إسرائيل إنسانية عندما منعت أم وأب من مرافقة طفلتهما في رحلة العلاج من مرض السرطان، وحرمان طفلةٍ من حنان أمها، حتى سمح بمرافقة الطفلة من قبل سيدة غريبة .. غادرت الطفلة وهي في حالة بكاء، والعين تنظر للخلف والقلب يرتجف.
قبل دخول العملية انتاب الطفلة حالة من الصدمة، وراحت تطلب رؤية الأم، وكيف لها ألا تطلب ذلك! كيف لهذه الطفلة أن تدخل غرفة العمليات دون أن تُمسد الأم على شعرها، ويطمئن الأب أصابعها الخائفة بقبلة؟! ولكن هذا ما أراده الاحتلال ووزارة دفاعه التي اكتست باللون الوردي مُعلنة تضامنها مع مرضى السرطان!
نجحت العملية، هكذا قال الطبيب، وتحدثت عائشة مع والدتها عبر الهاتف، لكن الحديث كان عبارة عن بكاء وشوق وخوف، حتى دخلت الطفلة بعدها في غيبوبة لمدة يومين فقدت فيها البصر والسمع، فلا حاجة لها بهم إن لم تُشاهد العين وجه الأم ساعة الاستفاقة وتسمع صوتها، وقتها قال الطبيب للسيدة المرافقة: لابد لعائشة أن تعود إلى غزة، فهي بحاجة إلى حضن الأمان من أمها وأبيها، ليدعم ذلك نفسيتها، فهي في حالة انهيار كبير بسبب غياب الأهل عنها. وعادت عائشة إلى غزة، وماتت فيها بعد أيام من عودتها لغزة، دون نظرة الوداع، أو لمسة الطمأنينة، ماتت الطفلة خائفة مشتاقة، متأثرة بإنسانية الاحتلال المفرطة!
إحدى الحالات كانت لسيدة أصيبت بالسرطان، فتم رفض تصريح السفر الخاص بها للعلاج في مشافي الضفة الغربية، وبعد شهور طلب الاحتلال مقابلة تلك السيدة، وعرض عليها صورة لفدائي، فرفضت السيدة أن تعطي أي معلومات عنه، وقالت أنها لا تعرفه، فرفض الإسرائيلي إعطاء التصريح للسيدة لأنه أراد منها أن تتعاون معه بشكل أمني.
هكذا تتجلى الإنسانية الإسرائيلية بأن تقوم بمقايضة المريض مقابل أن يتلقى علاجه، بأن يتعاون مع المحتل على إدانة نفسه!
ليس من الصدق أن نذكر دائمًا أفعال المنع الإسرائيلية، فهو يمنع تقريبًا نصف الحالات التي تريد العلاج في مشافي الداخل والضفة الغربية، ويسمح بمرور عشرات الحالات المرضية الأخرى، إحدى هذه الحلات التي سمح بها كانت لوالد المريض محمود أبو طه، حيث وافق الاحتلال أن يسافر الوالد كمرافق لابنه المصاب بسرطان الأمعاء، وما إن وصل المريض وأبوه إلى حاجز إيرز، تم اعتقال الوالد، وإعادة المريض إلى غزة ومنعه من السفر للعلاج .. مات محمود بعد ذلك بمدة قصيرة، مات محمود مصاب بسرطانيين، سرطان المرض، وسرطان الاحتلال.