إن الإطار العام لفهم الاقتصاد السياسي للتعامل الصهيوني مع القضية الفلسطينية يجلي وبلا شك أن الطرح الاقتصادي كحل نهائي وممكن للقضية الفلسطينية هو الإطار السائد في العقل الصهيوني النابع من الوجدان التوراتي، والذي يستبيح الكل الفلسطيني مواردا وأرضا وسكانا، إلا أن اللافت والواضح أن صرامة وجدية هذه الطروحات باتت أكثر جدية وصرامة وكثافة وذلك نتيجة جهود المؤسسة الإسرائيلية في تغيير الوقائع على الأرض محليا وإقليميا، على اقل تقدير.
إن هذا يعني أن الرؤية الإسرائيلية للحل النهائي واضحة المعالم وجاري تطبيقها حثيثا على الأرض وتستمر في مراودة الفلسطينيين ومساومتهم في تقديم الأمن بكل الصيغ كالحفاظ على الهدوء أو التنسيق الأمني ومحاربة الإرهاب مقابل حلحلة الخناق الاقتصادي الذي تفرضه إسرائيل عليهم ومن فتات حقوقهم، وكافة التعبيرات والاصطلاحات السابقة بين قوسين. كما وان الأركان الرئيسية لتحجيم قيام كيان فلسطيني مستقل وتبقي التعامل مع القضية الفلسطينية في إطار الشروط الإنسانية والاغاثية والاقتصادية لم ولا تناقشها إسرائيل ابد وتبقي عليها قائمة وهي:
- السيطرة المطلقة على الموارد من ارض ومياه ونهبها المستمر وبناء المستوطنات وتجميد كل ممكن من السياسات التنموية الفلسطينية كتنمية القطاعات الإنتاجية أو البنى التحتية المادية من طرق وموانئ ومطارات وشبكات مختلفة كمواصلات واتصالات أو إسكان.
- التحكم المطلق في حرية حركة السلع والخدمات وعوامل الإنتاج من عمالة ومواد خام ورأس مال تنموي داخل المناطق الفلسطينية وبينها وبين العالم الخارجي.
- كافة السياسات الاقتصادية الفلسطينية هي انعكاس للسياسة الإسرائيلية ونابعة من رحمها سواء التجارية كالارتباط أحادي الجانب بالنظام الجمركي الإسرائيلي، أو النقدية كالتحكم بفائض الشيكل بالأراضي الفلسطينية ووجوده، أو المالية بتقييد القدرة على تعزيز الإيرادات والضرائب المباشرة والإبقاء على الضرائب غير المباشرة المتحكم بها صهيونيا والمجباة من خلالها لصالح السلطة الفلسطينية وما يتبع ذلك من اقتطاعات وإقراض واحتجازات.
هذا من جانب ومن جانب آخر، انسيابية المؤسسة الفلسطينية وانقسامها على نفسها مما أدى لعدم القدرة إلا على ردات فعل في مواجهة الطرف المغتصب وذل بسبب حالة شبه الانفصال المؤسسي الإداري والسياسي والمالي والقانوني والتغاير الحاد في كافة المؤشرات الاقتصادية بين باقي ما تبقى من الوطن في الضفة الغربية وقطاع غزة، والذي اعتبره دوما عمود الخيمة لتمرير الحلول الاقتصادية التصفوية ولعزل القطاع بزخمه السكاني والثوري المعهود.
إن هذا الواقع المرير قد قاد لنتيجتين غاية في الأهمية:
الأولى: فقدان اذرع المساندة العربية والإقليمية والدولية بكافة أشكالها الجماهيرية أو المالية أو السياسة لان التروس النضالية على الأرض الفلسطينية قد عطلتها الانقسامات الذاتية الفلسطينية والصراعات النخبوية والمصالح الفئوية للطبقة السياسية القائدة. وأدى ذلك لفقدان الزخم المساند سياسيا من العرب ودول العالم النامي والناشئ والأوروبي الذي يريد أن يبدو مغايرا عن التبني الأمريكي لإسرائيل وبالتالي طرح وتبني الرؤي الإسرائيلية على أنها توجهات دولية وصفقة القرن والانجراف العربي نحو التطبيع الرسمي مثال على ذلك.
اقرأ أيضاً: جنين في عين العاصفة .. هل يكسر الاحتلال حصن المقاومة الثائر؟
الثانية: نجم عن الانقسام الفلسطيني سلسلة طويلة من مبادلة الفلسطينيين للهدوء في غزة والتنسيق الأمني في الضفة بفتات من التدفقات المالية من الحقوق الفلسطينية والتسهيلات وإدخال مواد الاعمار والمساعدات كتلك القطرية، وهو ما أسس لمزيد من العقلانية والقبول في طرح التسويات الاقتصادية.
ومن هنا جاءت خطة لبيد وهي جزء من السياق العام المستمر للمعالجة الاقتصادية للقضية السياسية وتصب فيما صبت به ما قبلها مثل صفقة القرن فهي ليست خططا متعددة وإنما مراودات للفلسطينيين بالقبول بحالة الاغتصاب للحق الفلسطيني وضمن مسار الرؤية الصهيونية أحادية الجانب للحل النهائي التي أطلقت فعليا منذ الانسحاب أحادي الجانب من غزة واستباحة الضفة وهدم ما أنشئ من اتفاقات هزيلة، وهو ما حيد أوراق المساومة الفلسطينية وابقي على مدن صفيح لخدمة الاقتصاد الإسرائيلي وفتح العالم العربي على غاربه للاقتصاد الصهيوني بدون ثمن أو بثمن اقتصادي بخس.
قد يبدو أن هناك سمات خاصة في هذه الخطة مثل:
إحراج حركة حماس التي لا تستطيع قبولها ربما أمام الشارع الغزي الذي يعاني الأمرين اقتصاديا بل وإظهارها أنها أي حماس عقبة الاستقرار عربيا ودوليا. كما أنها محاولة في احتواء القطاع وتطويعه من خلال الأدوات العربية والدولية.
تخفيف أي ضغط دولي على إسرائيل التي تظهر أنها صاحبت رؤية ريادية في خلق الاستقرار حتى دون أن تقدم خطة اقتصادية حقيقية، وتوجيه الضغط نحو الملفات الإقليمية المتشعبة التي تصب جميعها في إيران.
وقد عرضت الخطة في مرحلتين :
الأولى: تكون بإعادة الإعمار وتقديم الاحتياجات الإنسانية في غزة، مقابل إضعاف قوة حماس العسكرية عبر قنوات دولية، دون تقديم توضيحات بهذا الخصوص.
أما المرحلة الثانية: فأطلق عليها خطة اقتصادية كاملة تضمن الأمن بحيث تساهم في اختلاف شكل الحياة كليا وعلى نحو إيجابي في قطاع غزة.
والواضح أنها ستراوح مكانها في المرحلة الأولى القائمة بشكل مستمر وعلى الفلسطيني أن يقدم قربان إضعاف حماس والتدخل الدولي وكأنها إعادة صياغة لفكرة نزع سلاح الحركة وهاهنا الحلقة المفرغة والمبهمة والتي ستقود لعدم الانخراط في المرحلة الثانية لان بعض مفرداتها :
أولاً: الإدارة المدنية والاقتصادية للسلطة في القطاع وهي كذبة العام لان إسرائيل لن تساعد على وحدة الكيان المؤسسي الفلسطيني ولان هذه الإدارة المفترضة إن قامت ستلزم تجفيف منابع دخل وتمويل حماس وهو ما يعيدنا لنقطة الصفر.
ثانيا: شبكة الطرق بين الضفة وغزة وهي كذبة كل الأعوام فالفصل الحثيث المقصود بكل أركانه عبر الزمن لن تلغيه إسرائيل كحافز اقتصادي، فهي غير ممكنة لأنها تعارض عملية الفصل بين الضفة والقطاع وتصفية القضية.
إنها مصائد تحفيزية تطرح حتى لا يتم قبولها وأنا لا أدعو لرفضها لان البديل بقاء الحال على ما هو عليه وهو يصب تدريجيا في إطار هذه الصفقات وفصل المناطق الفلسطينية ليبدو القطاع مغايرا تماما بكل الجوانب عن الضفة الغربية وليبدو أيضا مشابها تماما لبعض المناطق المجاورة لإلحاقه بها. ومن هنا فهي متناقضة فالرفض يجب أن يقرن برؤية فلسطينية متكاملة وقدرة على الفعل كبح هذه الرؤية الإسرائيلية ومواجهتها.
كما أن عمليات إعادة الاعمار والمساعدات المختلفة تصب في النهاية لصالح الاقتصاد الإسرائيلي كما كانت دوما في ظل العجز الفلسطيني عن طرح خطط تنموية بل وتحررية شاملة.
إن إسرائيل تضع نفسك مكان اللاعب الآخر وتطرح خططا تعزل عنها الضغوط وتلمع نفسها والنخب الفلسطينية بانقسامها تساعد إسرائيل على ترويج خططها الوهمية لكسب الوقت وفرض مزيد من الوقائع على الأرض لتبدو خططها بعد لا يمكن إلا قبولها.
فهل نستدرك ونكامل الرؤى الفلسطينية المختلفة عبر برنامج مقاومة شامل لا يهمل أوراق القوة الفلسطينية ونعزز المقاومة السلمية ونستغل قدراتنا العسكرية عبر برنامج تكاملي وطني شامل.