الدين بين التحفيز والتخدير

الخطاب الديني
الخطاب الديني

في عرضه لعناصر الحضارة يرى مالك بن نبي أن للحضارة عناصر ثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت، لكنه يبحث عن عنصر رابع يدفع من خلاله الإنسان لاستغلال التراب والوقت، ومن ثم ينتج الحضارة المنشودة، وفي حالتنا الإسلامية يرى أن الدفعة الدينية هي التي حركت الإنسان العربي الذي كان غير ذي شأن قبيل الإسلام، فدفعته إلى الانطلاق بعيداً في صنع الحضارة، التي أثّرت في حينه في كل تفاصيل الحياة الإنسانية.

في مقابل هذه الرؤية للدين كان ماركس قد قال لابنته في معرض شكواه من سلوك رجال الدين: إن الدين أفيون الشعوب، أو هكذا جعله رجال الدين الغارقين في التخلف، المعطلين لحركة العقل الإنساني، حيث تحوّل الدين على أيديهم إلى أفيون مخدر، يدفع الناس تجاه الاستكانة، والتسليم لقضاء الظالمين وقدرهم، على اعتباره قضاء الله وقدره..!

‌كمسلمين: كنا نفاخر طوال الوقت أن كتابنا المقدس بدأ نزوله إلى الأرض بالأمر الإلهي:" اقرأ".. اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم{ بالقلم }، وهي بدون أدنى شك دعوة واضحة، وصريحة للقراءة، والتعلم، والخط بالقلم، الذي بواسطته استطاعت البشرية أن تحفظ إرثها، وتدون تاريخها، وتحفظ منجزاتها.

‌ثم توالت الآيات القرآنية من بعد ذلك التي تكرّم العلم، والعلماء، وترفض المساواة بين الذين يعلمون، والذين لا يعلمون، وتدفع الإنسان نحو التفكر في خلق الله، وآياته المنتشرة في الآفاق، وفي أنفسهم، ثم أيضاً ترفض منهم مبدأ الاستكانة، أو الزعم بأن الله يُغيّر للناس أحوالهم دون جهد منهم، أو ينوب عنهم بما عليهم هم فعله، بعد فهمه، وفحصه، والأخذ بكل أسبابه، ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة بكل وضوح:" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وأن التغيير لا بد له من فعل يسبقه، ولا بد له من فهم وتخطيط، وأخذ بكل المعطيات التي أودعها الله في الكون، حتى أنه سبحانه حجب عنهم الغيب كي لا يركنوا إليه" ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء".

‌كل ذلك وغيره الكثير جعل من الدين حافزاً للفعل، ودافعاً له، وليس كما صار لحظة وصف ماركس لابنته أفيوناً تُخدّر به الطاقات، لكن الدين لم يستطع الحفاظ على موقعه كمحفز للطاقات طوال الوقت، إنما بالفعل استطاع الاستبداد أن يحوله إلى أفيون بواسطة التحالف التاريخي، الذي سبق الإسلام نفسه، بين السلطة ورجال الدين، فمنذ أن اكتشف الاستبداد قدرة الدين على التأثير في الناس عقد هذا التحالف الشيطاني مع طبقة من رجال الدين جاهزة لأن تكون في خدمة السلطان، مقابل امتيازات خاصة، ومنافع خاصة، يشبه هذا ما جاء على لسان سحرة فرعون إذ سألوا:" أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين" الإسلام في بداياته أجهز على هذا التحالف، وجعل التواصل بين كل إنسان وربه مباشراً، لا يحتاج إلى وسيط، كما رفض الخطاب التخديري الذي اجترحه تحالف الاستبداد مع رجال الدين، ولم يقبل بفكرة الاستسلام إلى قضاء الحكام وقدرهم المنسوب زوراً إلى الله، وجعل من الإنسان محور الفعل في الدنيا، وما الآخرة إلا نتيجة فعله في الدنيا، هكذا خلق الدين الدفعة التي حركت العربي البدوي الغارق في أشعاره، المُتيّم بالصحراء القاحلة، وجعلته قادراً على استغلال التراب، والوقت، ومن ثم خلق حضارة من أعظم الحضارات التي عرفتها الحياة الإنسانية.

اقرأ أيضاً:  دماءٌ ومواجهاتٌ مسلحةٌ في الضفة...إلى أين يتجه الميدان؟

‌لكن، هل واصل الدين في دنيا المسلمين دوره بذات الكفاءة؟ أم أنه ابتلي كغيره بطبقة من رجال الدين الذين استطاعوا تحويله إلى أفيون، يدفع الناس تجاه الصبر على ظلم المستبدين، حتى وإن جلدوا ظهرك ظلماً، وإلى التسليم بكون الإنسان مجرد ريشة في مهب الريح، تتقاذفه الأقدار، دون أي قدرة على الاختيار، أو محاولة التأثير في مجرى الأحداث؟

‌من المؤسف أن الإسلام لم ينج تماماً من هذا التحالف، بل دخلنا بالفعل خلف غيرنا جحر الضب، وحذونا حذوهم حذو النعل بالنعل، وما عاد الدين في كثير من مقولاته التي ألحقها به التاريخ محفزاً على الفعل الحقيقي المبني على العلم، والفهم، واكتشاف السنن، إنما استبدلت أدوات الوعي بأدوات التسكين، فصار معيار النصر والنهوض عدد المصلين في صلاة الفجر، مع تقديرنا بالطبع لعبادة الصلاة، لكنها لن تكون بديلاً حقيقياً عن السنن التي بواسطتها تُصنع الحياة، ولقد أهمل المسلمون بالفعل اكتشاف السنن، وركنوا إلى العبادات غير المكلفة، وظنوا أن قول الله عز وجل:" إن تنصروا الله ينصركم" سيكون حليف الصوامين، القوامين، حتى لو تركوا بحث السنن، وتركوا الإعداد الحقيقي، وفهم الأسباب، فالله تكفل عنهم بالفعل، إن هم أحسنوا آداء العبادات..! وعدنا من جديد إلى الركون إلى الغيب الذي حجبه الله حتى عن أنبيائه إلا بالقدر الذي يخدم رسالاتهم" قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً * عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً "

‌الغيب علم الله وحده سبحانه، حتى أنبياءه عليهم السلام لم يطلعهم إلا بالقدر الذي تحتاجه رسالاتهم، ولو كشف الله الغيب للناس لانتفى الفعل، ولركن الناس إلى فعل الله بدلاً من فعلهم، لكن الله سبحانه أودع سننه في الكون، وكان قضاؤه وقدره الحقيقي في أن من يكتشف هذه السنن فستكون له الغلبة الحضارية، أما من يظن الله سيفعل عنه ما عليه فعله فسيظل خارج دائرة الفعل الإنساني، حتى وإن صلى وصام، وأكثر القيام.

‌المعادلة إذن كالتالي:

‌هناك سنن أودعها الله في الكون، وجعل اكتشافها والعمل بمقتضاها مقدمة حتمية للنهوض والنصر، وجعل الإنسان هو محور الفعل، وهو بهذا الوصف استحق وصف الخلافة" إني جاعل في الأرض خليفة" وعليه فإن صناعة المستقبل، واستشرافه لن تأتي وفقاً لقراءة غيبية منسوبة إلى الله، إنما وفقاً للإعداد الحقيقي، والتخطيط الحقيقي للمستقبل، بكل ما تعنيه كلمتا الإعداد، والتخطيط، أما الاستشراف المبني على زعم معرفة الغيب، فإنه لا يعدو كونه مجرد استشراف خرافي، لا يملك من أدوات الفعل الحقيقية إلا صفراً، لكنه يستبدل فقره في أدوات الفعل بنسبه تنبؤاته إلى الله..! وهكذا يقدم لنا خرافته وكأنها حتمية إلهية لا بد لنا من التسليم بها، حتى دون الأخذ بالأسباب الحقيقية، وبهذا يصبح الدين أفيوناً بالفعل، بدلاً من كونه دافعاً، ومحفزاً على الفعل.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo