في ذكرى الثانية، يدعون إلى انتفاضة ثالثة!

مواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي
مواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي

ما تزال قليلًا من المشاهد القديمة تتحرك أمام العين، صباح يوم الخميس الموافق 28 سبتمبر من عام 2000 تقدّم أرئيل شارون - زعيم المعاضة الإسرائيلية آنذاك أعداد غفيرة من جنود الاحتلال والحراسات ليخطو مقتحمًا باحات المسجد الأقصى، حصل ذلك بموافقة من رئيس الوزراء إيهود باراك، كان هذا الحدث بمثابة إعلان انطلاق ما عُرف بعد ذلك "بانتفاضة الأقصى" التي استمرت لخمس سنوات، وانتهت عقب انتخاب الرئيس محمود عباس عام 2005 وعَقد قمة شرم الشيخ، وما أعقبه من انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة.

قُدِّرت الخسائر الفلسطينية في تلك السنوات الخمس باستشهاد 4412 فلسطينيًا وإصابة أكثر من 48 ألفا، وتدمير البنية التحتية للسلطة، ومقتل 1069 إسرائيليًا وإصابة 4500 شخص.

يوم الجمعة، وهو اليوم الذي تلى طرد شارون بالأحذية من باحات المسجد الأقصى ارتكب الاحتلال مجزرة عندما اقتحم المسجد وقتل سبعة فلسطينيين وجرح ما يزيد عن 250 شخص، وهو اليوم الذي تثبت فيه المسار الجديد الذي قادنا إلى ما نحن عليه الآن.

للخلف قليلًا ..

 بعد عودة الرئيس ياسر عرفات من قمة كامب ديفيد الفاشلة، وانتهاء الفترة المقررة لقيام دولة فلسطين حسب اتفاق أوسلو، حدث فراغ سياسي، ودخلت عملية السلام حالة من الفتور، مما فتح المجال على تصعيد متوقع، وهنا نسأل: مَن كان بحاجة إلى العنف أكثر، الفلسطيني أم الإسرائيلي؟!

في الحقيقية أن الطرفان كانا بحاجة إلى العنف، فلسطينيًا، أولًا بسبب التهرب الإسرائيلي من استحقاقات السلام المُقرة حسب اتفاق أوسلو، وثانيًا ليُثبت الرئيس ياسر عرفات للرئيس الأمريكي بيل كلينتون صحة تخوفاته بالمجازفة بقبول ما عُرض عليه في كامب ديفيد.

لقد خطط الرئيس ياسر عرفات لانتفاضة مُسيطر عليها، يستطيع أن يستغلها ليُمرر بعض أهدافه، لكنها سرعان ما أفللت منه، وراحت في حضن الشارع والتشكيلات العسكرية التي أسهم هو شخصيًا في تشكيلها ودعمها بالمال والسلاح، وانخرط فيها أبناء الأجهزة الأمنية، وهذه كانت صدمة للاحتلال الإسرائيلي، بأن يشارك أفراد الأمن الفلسطيني في الاشتباك مع جنوده، بل وقيادة العمل المسلح، بعد ستة سنوات من العمل على تغيير عقيدتهم العسكرية التي حملوها ودخلوا فيها الأراضي الفلسطينية عام 1994.

اقرأ أيضاً: الاستيطان "الصامت".. نهبٌ يفوق المُعلن

على صعيد الاحتلال، كانت إسرائيل بحاجة ماسة إلى العنف من أجل اعفاء نفسها من أي استحقاق حقيقي للسلام مع الفلسطينيين، وهنا تلاقت الرغبة العنفية لدى الطرفين، وإن كانت الأهداف مختلفة، واستمرت العمليات العسكرية الإسرائيلية يقابلها عمليات للمقاومة الفلسطينية حتى تقاربت نسبة القتل بين الطرفين في العدد، مما ساعد في فوز أرئيل شارون في انتخابات الكنيست وانتهاء حزب العمل ممثلًا بإيهود بارك عام 2001 وجلس شارون على سُدّة الحكم في دولة الاحتلال، بعد أربعة أشهر فقط من تسببه في اندلاع انتفاضة الأقصى بتواطؤ مع باراك الذي دفع ثمن ذلك بغيابه هو وحزب العمل عن ساحة الفعل السياسي في إسرائيل.

كان فوز شارون متوقعًا بسبب حالة العنف القائمة، وهي الحالة التي يحبها شارون وينتمي إليها، ليُحقق رغبته بإنهاء اتفاق أوسلو وتدمير السلطة الفلسطينية ليلغي مبدأ الأرض مقبل السلام، ليتمكن من وضع استراتيجيته الخاصة لإنهاء الصراع حسب الرؤية الإسرائيلية الأمريكية الجديدة في عهد جورج بوش، ومن جانب آخر، كانت هذه الفرصة هي ذروة - لهيب الانتقام التي طالما حلم بها شارون ليتخلّص من ياسر عرفات الذي خرج من بيروت على مرأى عينه ولم يستطع قتله، وها هي الفرصة تعود مرّة أخرى.

لطالما رغب شارون في قتل ياسر عرفات، حتى أنه تمنى لو أن يعود ضابط كوماندوز كي يقتحم المقاطعة ويقتل عرفات فيها، وهو الذي أعد  لتفجير استاد رياضي في بيروت، كان من المقرر أن تجتمع فيه قيادة منظمة التحرير، لكن في اللحظة الأخير نجح ضباط من الموساد في اقناعه بإلغاء العملية لهول ما قد يحدث.

في الثامن من ديسمبر من عام 2001 أعلنت إسرائيل أنها تحتفظ لنفسها بحق منع عرفات من مُغادرة رام الله للتوجه إلى الخارج، وتم فرض الحصار على مقر إقامته في رام الله بعد خمسة أيام من ذلك الإعلان، ووصولًا إلى عملية تفجير فندق بارك في مدينة نتانيا يوم 27/3/2002 وإعلان جيش الاحتلال قراره بإعادة احتلال الضفة الغربية يوم 29/3/2002 وإطلاق عملية "السور الواقعي" ووقوع مذبحة جنين.

بعد أيامٍ قليلة من انكشاف هول الجريمة في مخيم جنين، زار وزير الخارجية الأمريكي كولن باول الرئيس ياسر عرفات في مقر إقامته المحاصر في المقاطعة، وقتها استقبله عرفات قائلًا: أهلًا وسهلًا بالجنرال، وتقابل الرجلان على الطاولة المستديرة وهي الطاولة الشهيرة في مقر الرئيس عرفات وقتها سأل الرئيس عرفات كولن باول هل هو راضٍ عمّا جرى في مخيم جنين من مجزرة، فجاء رد كولن باول صاعق عندما قال: الجنرالات لا يتحدثون عن الخسائر بل عن النتائج. وقتها أيقن الرئيس أن كولن باول هو مبعوث شارون وليس وسيط سلام، ويروِي الكاتب ناصر دمج أنه في تلك الجلسة رنّ هاتف كولن باول وكان شارون على الخط المقابل، وسأل كولن باول عن نوعية السّمك الذي يفضّله على الغداء عندما يصل إلى بيت شارون في النقب، لقد كان هذا الاتصال الذي سمعه كلّ الحاضرين للاجتماع، والذي استمر لسبع دقائق رسالة نهائية أن الأمر قد انتهى!

وانتهى الأمر بالفعل بقتل شارون للرئيس ياسر عرفات الذي قال في تصريح لصحيفة هآرتس أنه لا ينصح أي شركة تأمين بضمان حياة ياسر عرفات، وهو نفسه سبق وطلب منه الرئيس الأمريكي جورج بوش عدم المس بحياة ياسر عرفات وابقاء الأمر بيد الله، فرد عليه شاورن: ربما يتوجب أحيانًا تقديم المساعدة لله.

توفى الرئيس ياسر عرفات في نوفمبر 2004 بعد حصار استمر عامين، ودخل شارون في موت سريري في يناير 2006 بعد عام تقريبًا من وفاة ياسر عرفات، وكان للأقدار كلمة الفصل في حياة ألد الأعداء، ليبقى الصراع الذي تحوّل من عربي إسرائيلي إلى فلسطيني إسرائيلي، وربما يتحوّل غدًا إلى عداء محافظات دون غيرها مع إسرائيل، بفضل الانقسام الفلسطيني وما تبعه من انحدار في المستوى النضالي للسياسي الفلسطيني، والذي أجهز على أي محاولة حقيقية للحيلولة دون الخروج من الوحل بأقل الخسائر.

قبل يومين قتلت إسرائيل خمسة شباب في مخيم جنين والقدس، واقتحمت الأقصى في الذكرى الواحدة والعشرين لاقتحام شارون له، وإشعال الانتفاضة، ولا زالت تقتحم وتصادر الأراضي، فيما تعلو صيحات الفصائل للشعب بضرورة إعلان انتفاضة  ثالثة في وجه الاحتلال. لا أدري بأي منطق تُخاطب هذه الفصائل الشعب بعدما أثقلت كاهله بالانقسام والفقر والمُحاصصة، ومُسلسل المصالحة المُمل، لقد استسهلت الفصائل إطلاق البيانات والشعارات، دون مراجعة الأفعالها السابقة والإجابة الحقيقية على السؤال الكبير: ماذا نريد من الانتفاضة؟! ومن سيقود ويبني على الفعل الجماهيري؟! وهل القيادات الفصائلية الحالية تستطيع قيادة الجماهير إلى بر الدولة، أم ستأخذنا إلى التيه الأخير!

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo