اعدموا طلاب المدرسة!

طلاب المدارس في غزة
طلاب المدارس في غزة

اعدموهم .. هذا فقط ما لم يُطالب به من تصدّر الرأي في موضوع الفوضى التي حصلت في إحدى مدارس قطاع غزة، جراء ما  قام به مجموعة من طلاب المدارس بإلقاء الحجارة على مدرسة للثانوية العامة بُغية إخراجهم للمشاركة في مظاهرة احتجاج على إعادة اعتقال الأسرى الأبطال من قبل قوات الاحتلال في ظل رفض إدارة المدرسة لخروج الطلاب، وهنا وقعت حادثة الاعتداء. هذا حسب بيان وزارة التعليم، وبالطبع يجب أن نشك في أي بيان يصدر من أي جهة حكومية، هذا من حيث المبدأ.

الحدث مُستنكر بالطبع، مهما كانت دوافعه وأسبابه، لكنه حدث طبيعي في سياق الحالة النضالية الفلسطينية، وهو بالمناسبة سلوك ممتد مع بدايات انتفاضة الأقصى، بل وانتفاضة الحجارة من قبلها، لكنه كان يحدث بنسبٍ مُختلفة، أي أن الأمر متعارف عليه منذ عشرات السنين، وأنا كنت شاهدًا على أضعاف هذا الفعل، سواء في الفترة التي عملتُ فيها مرشدًا نفسيًا، أو المرحلة التي كنت فيها طالب مدرسة، حيث أنه في بعض المرّات كان يتم إدخال "الكاوتشوك" إلى ساحات المدارس وإشعاله بغرض إخراج الطلاب للمشاركة في تحرير فلسطين، وللعلم كان الأمر غالبًا ما يحدث بتوجيهات فصائلية من أجل الحشد للمظاهرات التي يدعون لها.

لم أعتد على قراءة الحدث من الخارج، بل في الغوص في الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور الكبير في العلاقة ما بين الطالب والمدرسة، وما تحويه من طاقم عمل ومربين، لدرجة إلقاء الحجاة عليها! لكنني هنا لن أغوص كثيرًا اتقاء "اللغوصة" الحاصلة في عملية التعليم ككل، خاصة في ظل وضع اقتصادي متردي، انعكس بظلاله على كل مناحي الحياة في قطاع غزة، وعلى المدارس والمدرسين بشكلٍ خاص، لأنهم الفئة الواقعة تحت ضغط عظيم من قبل الطلاب بحكم التنشئة القبلية والفصائلية في قطاع غزة وعموم فلسطين، وبحكم الفروق الفردية أيضًا، وعدم الإيفاء بحاجات المعلم المادية والمعنوية.

الجميع حاول اقتراح حلول ومعالجة لما حدث، لكن شهادة لله - أحدًا لم يُطالب بإعدامهم، وهذا شيءٌ عظيم، يُعبِّر عن مدى انتشار ثقافة التسامح والعقلانية في مُعالجة المشاكل المجتمعية، فالأغلب طالب بعقاب الطلاب، وذلك بفصلهم مدة محددة، أو إنزال العقاب البدني بهم، ومنهم من توجه للأسرة - بحكم أنها بيئة التنشئة الأولى للفرد، وطالبوا بتشكيل لجان لتعمل على تربية الأسرة من جديد، لكني أُعيد وأُكرر لم يُطالب أحد بإعدام الطلاب في الساحات العامة، لكن هناك من تمنى تدخل "أبو عبيدة" وهو الناطق باسم كتائب القسام، لمعالجة الأمر بطريقته، وكلنا نعرف أن "أبو عبيدة" منوط به معالجة الأمور مع جنود العدو. هذا الاستعداء المازح، الذي تصوّر الطلاب وكأنهم جنود احتلال، هو استعداء لاشعوري لعقلٍ استقر على مُعالجة مشاكله بالقوة والسلاح وثقافة الهيمنة.

في المقابل نريد أن نسأل مجموعة من الأسئلة ونتركها لكم.

  • كم مؤتمر دراسي تم عقده لمناقشة حالة العنف داخل المدارس؟!
  • ما هو تأثير المرشد النفسي داخل المدرسة؟ وهل يُسمح له بالعمل بشكلٍ صحي؟
  • هل ينال الطلاب حقهم في حصص الرياضة؟!
  • هل تتم معاملة الطلاب من قبل إدارة المدارس بالشكل واللغة الإنسانية اللائقة؟!
  • هل يتلقى الطلاب الطعام بالشكل السليم؟!

قد يضحك البعض على آخر سؤال، ولهذا أنصح بالقراءة حول تناول الطعام وأثره على السلوك والنمو والحالة المزاجية.

الملفت في الأمر أن الجميع اتفق أنّ سوء التربية هو السبب الأساس في تعدي الطلاب على المدرسة والمدرسين، إي نعم إن التربية هي منشأ كل فعل يصدر عن الإنسان، ولكن أحدًا لم يخبرنا ما هي التربية التي يقصدها في تعليقه على الأحداث؟!

اقرأ أيضاُ: التشغيل المؤقت.. لا يُسمن ولا يُغني من جوع!

لقد استقر مفهوم التربية في أذهان الكثيرين منا على الزجر، والقولبة، والتنميط، أي أن يقوم ربّ الأسرة بتنشئة الطفل على سلوكيات وألفاظ ومفاهيم تربت عليها الأجيال بشكلٍ متوارث، وأن الطفل إن حاد عن هذه التعليمات يكون "قليل تربية" أي أن تسريحة شعر معينة أو لبس معين، أو طريقة نقاش، وصولًا إلى السلوك العنيف، قد تتساوى جميعها وتدخل في نطاق "قليل التربية" وهذا مفهوم قاصر عن التربية التي عرّفها رفاعة الطهطاوي: بأنها التي تبني خُلق الطفل على ما يليق بالمجتمع الفاضل، وتنمّي فيه جميع الفضائل التي تصونه من الرذائل، وتمكّنه من مجاوزة ذاته للتعاون مع أقرانه على فعل الخير. أما أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة التي يظن أهل غزة أنهم يعيشون فيها، في حالة إنكار واضحة للمعاناة التي يتعرض لها الطلاب والمدرسين والمجتمع ككل، عرّف التربية على: أنها الوسيلة التي تساعد الإنسان على بقائه واستمراره ببقاء قيمه وعاداته ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

لا أحد يغفل أن العادات والتقاليد والدين هي المكون الأساس لمفهوم التربية، لكننا نغفل دومًا أن التربية الحقيقة تنطلق من بيئة سويّة، وليس من كتب وتعاليم ومحاضرات، فالشارع هو التطبيق الفعلي لمفهوم التربية والسلوك اليومي للأفراد، لأنهم يتحركون بناء على مفاهيم معينة استقرت في الأذهان، وعندما لا يجدونها حقيقة واقعة على الأرض يحدث السلوك العكسي، فالتربية الإنشائية - إن جاز التعبير قائمة على مفاهيم رومانسية عن العدل والأخلاق والاحترام، والعمل، ولكن أين العدل في الشارع والمؤسسة والمدرسة والجامعة وسوق العمل؟!

يقول رﻭﺑﺮﺕ ﻣﻮﻏﺎﺑﻲ كيف يمكننا أن نقنع الجيل الجديد بأن التعليم مفتاح النجاح؛ إذا كنا مُحاطين بخريجين فقراء؛ ولصوص أثرياء.

سيبقى الصراع مفتوح بين الأجيال، ويجب علينا أن نُربي الأبناء لزمانٍ غير زماننا، وأن نبرهم قبل أن يبرونا، ونكف عن مقارنة الأزمان ببعضها، فهروبك من الشارع عندما كنت طالبًا صغيرًا لأنك رأيت مدرسك يمشي فيه، هو سلوك غير صحيح مبني على متلازمة الخوف والعقاب، أو على الخجل الزائد الذي أصبحت تفسره الآن بأنه احترام، علمًا أن بعض المدرسين الأوائل كانوا يُعاقبون بعض الطلاب إن رأوهم في الشارع، تحت ذريعة :"كاين تصيع وسايب القراءة"

مُلخص الحديث، نحن مجتمع تعرض لأعتى صنوف العنف من حروب، واقتتال داخلي، ناهيك عن العيش تحت حصار شديد أفقد الكثير من البيوت مأكلها ومشربها، وكرامتها، وهذا المناخ هو الأرض الخصبة لظهور الأمراض الاجتماعية والاضطرابات السلوكية العنيفة، وعلاجها لا يكون أبدًا باستخدام العنف مع الطلاب، أو مع عموم الناس، لأنهم في الأصل أبناء بيئة عنيفة، وسلوكهم هو استجابة طبيعية، وأن رد الفعل العقابي سوف يفضي إلى اختفاء السلوك العنيف في المستقبل القريب، لكنه على نطاق المستقبل البعيد لن يكون ذي جدوى، لذا يجب علينا أن نستوعب أننا نعاني بشكل مميت، علمًا أن 91% من أطفال قطاع غزة يعانون من صدمات نفسية، وهذا حسب ما صرح به المرصد الأور ومتوسطي لعام 2021 ناهيك عن نسب الاكتئاب والبطالة والطلاق وغيرها من النسب التي لا يرغب أحد بالحديث عنها.

علينا أن نعترف أننا لسنا خوارق، وألا نخجل من أمراضنا الاجتماعية ومسبباتها، ونعمل على معالجتها بهدوء، ووفق حلول معقولة ومناسبة، بعيدة كل البعد عن العنف، لتعمل على تقليل الفجوة للحد من الانزلاق الخطير نحو نقطة اللاعودة.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo