كأي فلسطيني ينتمي إلى فلسطين، والهموم الفلسطينية، جرحتي مشاهد اعتقال أبطال عملية نفق الحرية، جرحتني إلى الحد الذي شعرت فيه بحالة من الضياع، ليس لأن هؤلاء الأبطال لم يتمكنوا من مواجهة أجهزة الإرهاب الصهيونية، إنما: لأن أملاً في تنفس الحرية ضاع هكذا بكل هذه السرعة، أما مواجهة الأجهزة الصهيونية فيكفي هؤلاء الأبطال شرفاً أنهم على الحقيقة مرغوا أنفها في الوحل، وبأدواتهم البسبطة.
استطاعوا اختراق كل الجدر، لكن الطريق أمامهم لم تكن بكل هذه السهولة، ولقد صار واضحاً أن ما بعد كسر قيد السجن أصعب بكثير من كسر القيد، ذاته، فهناك دولة الآن بكل حقدها، وجيشها، وأجهزة إرهابها، تطارد فتية عزلاً، وهي ذاتها- أي الدولة- التي ترتعد منها جيوش كبيرة في المنطقة، ومن الظلم أن نطالب فتية عزلاً وحدهم بهزيمة دولة هزمت دولاً، ويكفيهم أن ألحقوا بها عاراً سيلاحقها لسنوات، وربما لعقود.
عاد الأبطال إلى الأسر، ومن أول لحظة تعمدت إسرائيل أن تنشر صورهم بالقيد، وفي ظني أن هذا الفعل الإسرائيلي ليس عفوياً، بل إن إسرائيل كانت تلتمس من بثها المباشر ما تغسل به عارها، دون أن تعرف أن عاراً جديداً يضاف إلى عارها الأبدي، وهي تفاخر بمواجهة فتية آمنوا بقضيتهم، لا يملكون سوى إيمانهم، بكل ترسانتها الأمنية، المدججة بكل وسائل القتل.
مجرد تخيل مشهد المواجهة: " دولة في مواجهة فتية عارية صدورهم إلا من الإيمان بأن كل ما على هذه الأرض لهم" هذا المشهد في ذاته على إسرائيل ألا تسمح لشواذها الذين تطلق عليهم اسم مواطنين أن يروه، فأي دولة هذه التي يمكنها أن تفاخر بنصر على فتية عزل؟!
قد لا تؤثر هذه الصورة التي ترسمها العاطفة الفلسطينية لإسرائيل في نتائج أي مواجهة حقيقية على الأرض، لكنها على الأكيد تؤثر في تعزيز رغبة مواصلة التحدي لدى الشعب الفلسطيني، فلقد استن هؤلاء الأبطال سنة يمكن لأي فلسطيني أن يحاول تكرار ما يشبهها، أملا في الحصول على شرف المحاولة على الأقل، فلقد شاهد الفلسطينيون مشهد عز هم في أمس الحاجة إليه، خاصة في هذه اللحظة الزمنية التي تتغول فيها إسرائيل على تاريخهم، وجغرافيا آبائهم، دون أي رادع، ودون أن تحسب حساباً لا للعرب، ولا للمسلمين، ولا للعالم، فجاء الأبطال الستة وبأدواتهم البسيطة ليعيدوا التوازن إلى المشاعر الفلسطينية، وكأنهم يقولون لشعبهم: نعم إسرائيل دولة حديثة، وقوية، ومتغطرسة، لكننا لن نعدم الوسيلة على إذلال تجبرها، ولن نعدم الوسيلة التي تؤكد إصرار الفلسطينيين على التحدي.
اقرأ أيضاً: مؤرخ "إسرائيلي": تهديد خطير يواجه إسرائيل أكبر من النووي الإيراني
لن أذهب في اتجاه البناء على الحدث إلى الحد الذي أدعو فيه إلى اعتباره مؤشراً على قدرتنا على إلحاق الهزيمة العسكرية النهائية بإسرائيل، فتلك مهمة- شئنا أم أبينا- تفوق قدرات الفلسطينيين وحدهم، ومن الظلم أيضاً أن يحملها الفلسطينيون وحدهم، وتحديداً ونحن نعرف جيداً أن كل موازين القوى في صالح إسرائيل، لكن ما يمكن لحادثة النفق أن تقوله بوضوح: نعم نحن لا نملك ما نهزم به إسرائيل عسكرياً، لكننا نملك ما نهزمها به أخلاقياً، وما يربكها عملاتياً، وما يجعلها دائمة الشعور بأن الشعب الفلسطيني لا يمكنه أن يستسلم لكل مخططاتها، ولا بد لها من الاعتراف بحقه في الحياة ككل الشعوب على أرضه التاريخية.
نحن نملك ما نشغل به مراكز التفكير في العالم، حينما تصلهم صورة الفلسطيني الباحث عن الحرية، المصر على الوصول إليها، القادر على تحويل الأدوات البسيطة التي يحسبها الناس لا شيء، إلى أدوات فاعلة، تنحت الصخر، بحثاً عن الضوء.
مرة أخرى:
لن أحمل المشهد ما لا يحتمل، لكن هؤلاء الأبطال الذين جرحتنا صور إعادة اعتقالهم، كانوا قد رفعوا أرواحنا عالياً، وربما كان أجمل ما في المشهد هو الكشف عن حقيقة وحدة المشاعر الفلسطينية، دون الالتفات هذه المرة إلى الخلفيات الفصائلية، إلا من بعض الشواذ الذين أفصحوا عن سقوطهم الأبدي، والذين لا يعبرون عن حقيقة الشعب الفلسطيني، ولا عن أي من مكوناته.
لقد كشف الحدث عن أن تناقضات السياسة، وانقساماتها لم تجعل منا بعد شعوباً متعادية، كما تبدو في تهافتات السياسيين، فلا زلنا شعباً واحداً، يلتف بتلقائية حول أفراحه، وأتراحه، فكما غمرت الفرحة كل الفلسطينيين حينما تسربت الأخبار الأولى لعملية الهروب، انقبضت صدور كل الفلسطينيين مع أول خبر حول إعادة اعتقال بعضهم، وأظن كل الفلسطينيين الآن تلهج ألسنتهم، وقلوبهم بدعاء موحد: اللهم نج منهم من نجى، وخفف عمن أعيد اعتقاله، وفرّج بقدرتك عن كل أسرانا، الذين هم عنوان شرفنا، وتاج رؤوسنا.
لن أجازف بالقول: أن علينا أن نبدأ بتجهيز جيوش وعد الآخرة..! لكن الأكيد أن علينا أن نلتقط لحظة وحدة مشاعرنا الفلسطينية، وألا نكف عن الاعتقاد بأن أدواتنا البسيطة يمكنها أن تهزم إسرائيل أخلاقياً، وأن تضغط على ما تبقى من ضمير العرب، والمسلمين، وكل أحرار العالم، بأن هناك شعباً منسياً لا يزال تحت الاحتلال، وأنه سيواصل نضاله حتى يحصل على حقوقه، حتى لو تخلى العالم كله عنه، وتركه العالم كله لمواجهة مصيره وحده.