كيف تشرب غزة سبع طن من القهوة يوميًا؟!

بائع قهوة على عربة في غزة
بائع قهوة على عربة في غزة

كُنا مجموعة شباب، مهندسين وأطباء وفنانين، نجلس على قارعة الطريق، أو ما يُعرف مجازًا بـ كورنيش غزة.

هذا الاجتماع يحصل بشكل دوري لأغلب شباب مدينة غزة وكهوله، والقليل من النساء، إذ تكون فرصتهن في الاجتماع على كورنيش البحر في ساعات الصباح، وفي أوقات الدوام الجامعي أكبر، حيث ينتشرن على المقاعد كأنهن الزنابق، فسبحان من صاغ الجمال وتممه.

لم يطل جلوسنا، حتى طلَّ علينا الفتى "بلال" صاحب بسطة القهوة التي نجلس في رحابها، وسألنا سؤاله المعتاد معروف الجواب: "قهوة يا شباب؟" فاستوقفه أحد الأصدقاء الجدد على "القعدة" وسأله إن كان عنده مشاريب أخرى يصنعها، فجاوبه بلال: في كابتشينو، رغوة وبدون رغوة، وهنا ضحكنا جماعة على مشهد أحمد حلمي في فيلم ظرف طارق، وأكمل الفتي: وفي شوكو، كاكاو، زهورات، وشاي، لقد أخّر الشاي إلى آخر الخيارات، ربما لأنه أصبح غريبًا في مدينة كانت تدلل الشاي بالميرمية والنعناع البلدي.

كان الفتى البائع يعرف القادمين إليه تمام المعرفة، فهم سوف يسألون عن الموجود، وبعد ذلك سوف يصمتون للحظات، ثم يطلبون القهوة، لقد سيطر هذا المشروب على مزاج الناس في قطاع غزة بشكل غير معقول!

في كل زاوية تشاهد بسطة تبيع القهوة، تجدها في الشوارع الفرعية، في كراجات السيارات، والمتنزهات العامة، والأرصفة، وأمام المكاتب الحكومية وغير الحكومية، تستطيع القول أنك محاصر ببسطات القهوة، ناهيك عن المقاهي الكثيرة المنتشرة في كل الأحياء والمخيمات في القطاع، وهي أضعاف ما كانت عليه قبل عام 2007 وهو العام الذي دخل فيه أهل غزة الجنة، وتم فرض الحصار الإسرائيلي عليها، فأصبحوا بلا عمل، حسب القول المتداول بين الشباب، أن الجنة لا عمل فيها، يجلسون على المقاهي منتظرين شيئًا أشبه بالغول والعنقاء والخل الوفي، ألا وهو المصالحة، حيث بلغت نسبة البطالة في القطاع إلى ما يزيد عن 75%.

قد يدخل على أحد القراء الآن شاهرًا سيفه ليقول لي: "طيب يا فصيح .. قديش كان استهلاك القهوة قبل 2007؟!

أنا لئيم نوعًا ما، أحاول دومًا استدراك الأمر، لكنني صراحة هذه المرّة فشلت، ولم أعثر على احصائية محددة لاستهلاك القهوة في قطاع غزة قبل عام 2007، لكنني عرفت أن نسبة البطالة كانت 30 % وبالقياس أقول أنني كنت أشرب القهوة أنا وأغلب طلاب جامعة الأزهر، وما حولها من كشكٍ بسيط في ساحة الكتيبة أو ما تعرف بحديقة الأزهر يقال له كشك أبو العبد، وكشك آخر لا أتذكر اسمه، أما الآن، فالكتيبة مُلغمة بالأكشاك، حتى أنهم يسمونها بسطات وليست أكشاك دلالة على تدني مستوى الصنعة.

لقد تاهت مني المقالة، لم أكن أنوي الدخول في هذا السياق الشائك من الحديث .. المهم، لنرجع إلى الخلف.

اقرأ أيضاً: بالفيديو مقابر الأرقام.. احتجاٌز بعد الموت

أذكر في احصائية لوزارة الزراعة بغزة عام 2019 قالت أن استهلاك القطاع من القهوة يبلغ من 6 إلى 7  طن في اليوم، وهذه نسبة كبيرة جدًا مقارنة بعدد السكان، ناهيك عن انتشار المقاهي في جميع أنحاء القطاع، ومنها بالطبع المقاهي الفخمة التي تقدم فنجان القهوة بخمس دولارات وأكثر، غير رسوم الخدمة وزجاجة الماء التي يضعها أمامك كالقضاء والقدر، وهناك من يقدم لك كأس قهوة بربع دولار، أي بشيكل واحد، وهذا النوع الآخر هو من يُسيطر على سوق العمل، حيث أن عشرات المصانع في قطاع غزة تعمل على استيراد القهوة وتحميصها وتعبئتها بجودات متفاوتة، ومنها ما يتم إعداده بشكل خاص وسيء إلى مجموع البسطات التي لا تستطيع وزارة الاقتصاد أن تأتي برقم محدد لها، لأنها ببساطة تتوالد كل يوم، فهي ومهنة بيع السجائر الفَرِط في قطاع غزة أصبحن مهن لا حصر للقائمين عليها.

المشكلة هنا ليست في شرب القهوة، ولا في مزاج شرب القهوة، فقد قرأت العديد من التعليقات على موضوع انتشار شربها في غزة، وربطه بالمزاج والكافيين والحاجة إلى السهر، وكأننا في القطاع فقط نحتاج إلى المنبهات كي تجعلنا نسهر، فنحن نسهر من قلة العمل والأمل والأمراض النفسية، وانقطاع الكهرباء والحر الشديد، وهروبًا من متطلبات النهار، ولسنا بحاجة لكأس القهوة الكرتوني لكي يجعلنا نسهر، لأنه ببساطة ليس بقهوة أصلًا، بل خليط من أشياء مجهولة فات عليها الوقت تسمى ظلمًا قهوة، حتى أنني مازحت طبيبًا صديقًا قد منّ الله عليه وسافر كي يكمل زمالة الطب في المسالك البولية، يومها قلت له أنني أعاني من حصاوي في الكلية والحالب، وأرجعت الأمر من نفسي إلى شرب القهوة بشكل كبير، فقال لي وهو يضحك ": قهوتنا اللي بنشربها محتاجة تصير قهوة، بعدين بنشوف إذا الحصاوي منها ولا لا " وطلب مني أن أشرب الماء بكثرة، وامتنع عن متابعة الأخبار الخاصة بالتسهيلات!

لطالما كانت المقاهي هي الأماكن التي تتعرف منها على حاضر أهلها، وتستشرف منها مستقبلهم، لهذا نحن نريد مقاهي في غزة، لكننا نريدها مقاهي نرتاح فيها من التعب، نذهب إليها لنلتقي بالأصدقاء لنخطط لمشروع عمل، ونخوض فيها نقاشًا حول موقف وزير وطني، ونرصد جريمة مستورد فاسد، ونتحدث في مشكلة تخص الحي والناس وكلاب الشوارع. نريد المقاهي إي نعم، لكننا نريدها بشكل آخر، وهدف مختلف، ونريدها أيضًا نظيفة، وتقدم قهوة موثوقة، ولا نريد بسطات عشوائية يموت فيها وقت شبابنا دون مستقبل، منتظرين رابط فحص الـ 100 دولار!

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo