تجربة طالبان والاستفادة منها في فلسطين

حركة طالبان
حركة طالبان

(1)هنا احتلال وهناك احتلال

قد يعتبر البعض أن تجربة طالبان مثلاً يحتذى به في تغيير المعادلات السياسية, وفي خلق حقائق مختلفة في الواقع السياسي, وفي دفع القوى الكبرى الى التراجع عن طموحاتها السياسية في مناطق مختلفة من العالم, وفي كسر  فرض ارادتها على الشعوب .

لا شك أن تجربة طالبان وقدرتها على طرد الأمريكان من أفغانستان والسيطرة على كل المقدرات الحكومية فضلاً عن الكميات الهائلة من الأسلحة المتطورة التي استولت عليها بعد انسحاب القوات الأمريكية, تجربة تستحق الدراسة من نواح عديدة.

وهنا يمكن الإشارة إلى فلسطين وأفغانستان بإعتبار إن كلا منهما وقع تحت الاحتلال, ففي فلسطين احتلال إسرائيلي نجح في إقامة دولة ومؤسسات وجيش قوي ،فضلاً عن علاقات دولية واسعة خاصة مع الغرب, وفي أفغانستان كذلك، كان الاحتلال الأمريكي الذي حاول أن يصنع نمط حياة مختلفة من خلال تغيير النظام السياسي والعبث بهوية الشعب ومحاولة حرفه عن قيمه الإسلامية .

وواضح أن المقارنة قد تختلف في طبيعة الأحداث والوقائع والنتائج في كلا البلدين , لكن في نهاية المطاف يجمعهما العديد من الجوانب التي يمكن الاستفادة منها.

ومعروف أن خلاصة تجارب الاحتلال هي ذاتها في كل مراحل التاريخ، إذ لا يرحل الغزاة والمحتلون إلا بعد أن يغدو بقاؤهم أكثر كلفة من قدرتهم على الاحتمال، أو أكثر من الفوائد التي يجلبها لهم.

من أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة طالبان, أن طالبان استطاعت ,وعبر سنوات طويلة من الكفاح والنضال, ارغام القوات الامريكية على القناعة انه لا مجال لها البقاء في الأراضي الأفغانية, وأن عليها الانسحاب وترك الأفغان يقررون مصيرهم بأنفسهم , وقد دفعت طالبان في ذلك ثمناُ باهظاُ اذا خسرت أعداداً هائلة من مقاتليها فضلاً عن استنزاف مقدراتها والتضييق عليها ومحاصرتها في كل مكان.

إن الانسحاب الامريكي من افغانستان بعد أكثر من عشرين عاماً من التواجد القوي والمكثف ومن العمل الدؤوب لخلق حقائق جديدة أفغانستان من خلال تنصيب قيادات أفغانية على رأس النظام السياسي والتحكم في مقدرات افغانستان الاقتصادية وسياساتها الخارجية , يعتبر ضربة كبيرة للسياسة الامريكية التي كانت تطمح دوما الى تطويع الانظمة والشعوب لصالح منظومة القيم الأمريكية وجعلها تسير في الفلك الأمريكي.

اقرأ أيضاً: بالفيديو مقابر الأرقام.. احتجاٌز بعد الموت

وقد بذلت الولايات المتحدة الامريكية المليارات في سبيل تحقيق اغراضها السياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وفي الدول الاسلامية , غير أنها واجهت في ذلك مقاومة كبيرة مثلما حدث في العراق والصومال ولبنان.

(2) هدف واحد ووحيد

من أهم الدروس التي يمكن الاستفادة منها في التجربة الافغانية أن مقاتلي طالبان كانت لديهم اهداف محددة وثابتة لم يحيدوا عنها طوال عقود من الزمن, وركزوا على هدف رئيس ووحيد وهو طرد الأمريكان من أراضيهم بالقوة المسلحة ، فلم يكن لديهم خيارات أخرى في المساومة والتفاوض على جزء من أراضيهم او إيجاد شكل من الحلول الوسطية لحقهم في تقرير مصير افغانستان.

في الواقع الفلسطيني فإن القيادة الفلسطينية , المتمثلة بمنظمة التحرير, انحرفت كثيراً عن أهدافها التي تبنتها منذ انطلاق الثورة الفلسطينية, حيث بدأت بتحرير فلسطين كلها من البحر إلى النهر إلى أن قبلت بالتراجع إلى حدود عام 1967 والتي لا تتجاوز مساحتها اكثر من 22%.

ثم إن المنظمة كانت تنادي في إستراتيجيتها وأدبياتها وأناشيدها وتصريحاتها أن إسرائيل هي العدو الأول والرئيس للأمة العربية بأجمعها, وكانت تنادي بالكفاح ضده واقتلاعه من جذوره وطرده من كافة الاراضي الفلسطينية, ثم تراجعت الى القبول بإسرائيل كدولة لها الحق في الوجود والزمت نفسها بالتعاون الامني معها وملاحقة كل من يحاول ان يعمل ضد الامن الاسرائيلي.

(3) القتال وحده

ومن الدروس المستفادة, إن طالبان قررت ان يكون سبيلها في تحقيق ذلك, هو القتال ولا شيء غير القتال, واستمرت على هذا النهج طوال معركتها ضد الامريكان وضد النظام السياسي الذي مدعوما من قبل الامريكان.

الشيء الاهم من ذلك , ان طالبان حينما قررت ان تسير في خط التفاوضي السياسي لم تتنازل عن سلاحها ووضعت البندقية على طاولة التفاوض, مما اعطاها زخما وقوة لتحقيق اهدافها وفي اقناع الامريكان انه لا يمكن تطويع طالبان واستمالتهم بفتح القنوات السياسية.

 لقد شهدت العاصمة القطرية الدوحة الكثير من المفاوضات واللقاءات مع جهات امريكية متعددة حاولت اقناع طالبان بضرورة التخلي عن نهج المواجهة المسلحة وترك فرصة للتفاوض السياسي ومرغبة اياهم بان ذلك سيمنحهم الكثيرة من المزايا , غير ان طالبان اصرت على موقفها بعدم التنازل عن سلاحها وان القتال والتفاوض سيسيران جنبا الى جنب  الى ان حققت هدفها الاكبر بطرد الامريكان من اراضيها.

في الواقع الفلسطيني, مع الأسف الشديد, جرى عكس ذلك تماماً, حيث قررت منظمة التحرير ان تتنازل عن نهج الكفاح المسلح, وتقتنع بالأوهام الامريكية بأن امامها فرصة لتحقيق اختراق سياسي لاقامة دولة فلسطينية , بل وارغمت المنظمة على (نبذ العنف) والاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود والامن قبل ان تحصل على أي انجاز سياسي ملموس.

ولقد ثبت من خلال تجربة ربع قرن ان النهج الذي اتبعته منظمة التحرير الفلسطينية كان خاطئا وقادها الى طريق مسدود, وثبت ان اسرائيل استغلت نهج التفاوض السياسي السلمي لتحقيق اهدافها الاحتلالية, خاصة تثبيت وقائع الاستيطان والتهويد ومصادرة الاراضي, بل وضع العراقيل لإحراز أي تقدم سياسي.

لقد فهمت القوى السياسية الفلسطينية الاخرى والمعارضة لنهج التفاوض السلمي مع الاحتلال هذا الدرس جيدا وقررت ان تتمسك بحق المقاومة ضد الاحتلال, واصرت على اعتباره الوسيلة الاكثر فعالية في دفع الاحتلال الى التراجع عن سياساته واجراءاته العدوانية.

(4) لا رهان على الأمريكان

ومن الدروس المهمة, ان طالبان لم تعتمد فقط على المواقف او الوسطاء الغربيين, خاصة الولايات المتحدة, في معالجة القضايا الخاصة بالصراع في افغانستان واصرت على تعزيز موقفها وتثبيت موقعها السياسي كقوة في الميدان, كما عززت علاقتها بقطر باعتبارها دولة موثوقة يمكن اللجوء اليها في توفير مساحة واسعة للتعاطي مع الجهات الغربية.

لقد حاولت الكثير من الجهات الغربية ومن مختلف المستويات السياسية والاكاديمية دفع طالبان الى فتح قنوات مع البيت الابيض باعتبار ان كل الحلول والاوراق بيده, وانه يمكن الوثوق به في معالجة النزاع , خاصة مع قدوم بايدن, غير ان طالبان ظلت على موقفها الرافض بتفويض الامريكان في فرض الوصاية على القضية الافغانية.

على العكس تماما, اقتنعت منظمة التحرير الفلسطينية  بأن واشنطن تمثل المخرج الوحيد لحل القضية الفلسطينية وانها القادرة على الضغط على اسرائيل لتغيير مواقفها, ومن ثم رسمت المنظمة سياساتها وتحركاتها على هذا الأساس, وكانت تنتظر نتائج الانتخابات بفارغ الصبر, وقد تعاونت مع الادارة الامريكية في كثير من المواقف على امل ان تدفع  المسيرة السياسية قدما, لكن ثبت بالدليل القاطع ان الولايات المتحدة , ولاكثر من ربع قرن, لم تحرك ساكنا ولم تنجح في دفع المسيرة السياسية , بل العكس تماما, فقد قامت في كثير من الاحيان بمنح غطاء سياسي للإجراءات والقرارات الاسرائيلية ودافعت عنها في المحافل الدولية ولم تضغط عليها في أي من القضايا الحساسة مثل القدس والاستيطان.

درس اخر, لقد كان احد الاسباب التي ساعدت طالبان على تحقيق اهدافها انها عززت من علاقتها بالشعب الافغاني , بالرغم من مواقفها المتشددة, واستطاعت ان تفتح جسرا بينها وبين فئات كثيرة داخل افغانستان, كما انها حافظت على مظهرها من حيث تمسكها بالزهد وعدم الاسراف, واعتمدت على مقاتلين يحلمون السلاح وقيادات تلبس الزي الافغاني وتظهر بالمظاهر المتواضعة.

 في المقابل فان منظمة التحرير الفلسطينية بدأت مسيرتها الكفاحية بقوة واندفاع كبير وضربت مثلا كبيرا في التضحية والفداء, غير انها سرعان ما غرقت في الثراء وبناء المقرات الفخمة والمزايا المالية للمقاتلين.

درس اخر , لقد أثبتت التجربة الأفغانية جدواها، وأكدت أن موازين القوى لا تحسب بالقوة العسكرية والاقتصادية وحدها , بل بقوة الصمود والقدرة على الفهم والتخطيط والتمسك بالمباديء وفي الثبات على نهج قوي وفعال في مواجهة المحتل ؛ وان النصر على الاعداء يمكن تحقيقه اذا ما توفرت عوامل ذاتية قوية قادرة على  خلق معادلات سياسية جديدة.

(5) هل يمكن الاستفادة من التجربة؟

نعم، هنالك الكثير مما يمكن الاستفادة منه في هذه التجربة الطويلة والممتدة والمليئة بالتجارب والخبرات , وهي في النهاية تجربة انسانية تعكس رغبة الشعوب في التحرر والانعتاق من الاحتلال, وفي امكانية نجاح الثورات والقوى المقاومة في تحقيق اهدافها اذا توفرت لها عوامل الاخلاص وقراءة التاريخ وتعزيز مقومات القوة الذاتية.

 وبلا شك فان هذه التجربة سيكون لها مدلول كبير وانعكاس على كثير من القوى والمنظمات والفصائل التي تسعى الى تحقيق اهدافها المشروعة في التحرر والاستقلال, خاصة في فلسطين, التي تعاني من احتلال دام اكثر من سبعة عقود .

ان الدرس المهم هو أن الغزاة والمحتلين لا يرحلون عن بلادنا ما لم يشعروا ان هذا الاحتلال مكلف وفوق طاقتهم وانه يستنزف مقدراتهم البشرية والمادية, وانه لا جدوى من البقاء.

 ان السلطة الفلسطينية اشعرت الجميع ان الاحتلال الاسرائيلي رخيص التكلفة, اذ حملت عنه الكثير من المهام والمسئوليات التي يجب ان يتحملها كقوة احتلال, وفضلت ان يكون لها دولة تحت الاحتلال دون أي مقومات حقيقية للدولة.

ان تجربة طالبان تدفعنا لاعادة التفكير في كل المسار الفلسطيني وكيف يمكن استلهام التجارب الاخرى في معالجة الصراع مع الاحتلال بطريقة مختلفة وقادرة على احراز اهداف حقيقية بدل الجري وراء السراب الذي يحسبه الحالمون ماء.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo