نحن أيضا فلسطينيون، حتى وإن لم نكن متنفذين، في فصائل متنفذة، لكننا فلسطينون، ما يعني أن لنا في فلسطين مثل ما للمتنفذين تماما، وربما أكثر، ولربما أيضا يفوق ما قدمناه ما قدمه المتنفذون.
وفقا لهذه المعادلة، فنحن نرى أن من حقنا أيضا أن نفكر لفلسطين، كما يفكر المتنفذون، طالما أننا شركاء في الأرض، وشركاء في النضال، وشركاء في المغرم.
هكذا نظن في أنفسنا، وهكذا فعلنا.
قلنا: تعالوا نبحث في البرامج الفلسطينية، ونفحص، إن كانت على الحقيقة ممكنة، أو قادرة على تحقيق أهدافها.
ماذا وجدنا؟
قال فريق من الفلسطينيين: إن الحل الوحيد يتمثل في تدمير هذه الدولة الغازية، وفقط بقوة السلاح، لأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وفي الحقيقة، فلقد داعبت هذه الأطروحة مشاعرنا، فمن من الفلسطينيين لا يتمنى زوال هذه الدولة المجرمة؟! ومن منا لا تستهويه خطابات الثورة؟ فالثورة فكرة يقدسها الفلسطينيون، وكل المستضعفين، وبالفعل، فلقد شاركنا مع غيرنا في الثورة، ولا زلنا، وكان هذا- ولا يزال- محل فخرنا، لكننا وجدنا أن هناك من الأسئلة ما يحتاج إلى أجوبة، حتى لا تبدو ثورتنا- أو تضحياتنا على الوجه الأدق- دون هدف ممكن التحقيق. فحصنا مثلا مقولة تدمير إسرائيل بقوة السلاح، ومن ثم فحصنا ما نملكه كفلسطينيين من السلاح، وما لدى إسرائيل، فوجدنا أن فارق القوة أكبر من أن يسمح لنا بمجرد افتراض أن الفلسطينيين يمكنهم تحقيق هذا الحلم وحدهم.
المريح أننا لم نجد أي طرف فلسطيني، أو أي صوت ذي قيمة يزعم أن الفلسطينيين يمكنهم فعل ذلك وحدهم، ما أزاح عنا عبء مناقشة هذه الفكرة، صحيح أن هناك بعض الأصوات الغريبة تزعم هذا، لكنها أصوات تثير الشفقة، وليست محل احترام أحد.
تساءلنا: إذن، كيف سندمر إسرائيل؟
بحثنا في كل ما قيل حول هذه المسألة، وجدناه باختصار يعتمد على إمكانية إحداث تغييرات في محيط فلسطين، عربية، أو إسلامية، ومن ثم مهاجمة إسرائيل، وشطبها..! حاولنا أن نستقرئ واقع محيط فلسطين، فتساءلنا من جديد: هل هناك ما يشير إلى إمكانية حدوث شيء كهذا في المدى المنظور؟ ثم ما هو حجم ما نحتاجه من تغيير في المنطقة؟ فنحن على الأقل نحتاج قوة تساوي قوة إسرائيل عسكريا، وتتفوق عليها، وحلفاء، يوازون حلفاء إسرائيل ويتفوقون عليهم، وعندما يحدث هذا، فإن فكرة تدمير إسرائيل عسكريا لن تحسمها معركة محلية، هي لابد معركة على الأقل إقليمية، وربما دولية، والله وحده يعلم إن كانت إسرائيل ستلجأ إلى خيار شمشون النووي" علي وعلى أعدائي"، كما أنه وحده يعلم حجم الدمار الذي سيحل بالمنطقة، لأننا هنا نتحدث عن دولة لا تنتظر الهزيمة وحسب، ومن ثم يمكنها الانسحاب إلى بلدها الأصلي، كما كان واقع الاستعمار القديم، إنما دولة تواجه الشطب، والفناء، وفي حالة كهذه، ما الذي يمكن أن تفعله، إن توثقت من مصير الشطب؟
تساءلنا أيضا: هب أننا انتصرنا عسكريا، فهل سنقتل الملايبن الستة، ونصف المليون من اليهود الموجودين في فلسطين؟ وهل سيسمح لنا العالم بهذا؟ وهل هذه غاية نسعى إليها؟ وإلا فماذا سنفعل بهم؟ هل سنطردهم إلى حيث أتوا؟ وهل هذا ممكن حقا؟ أم هل سنقبلهم مواطنين في دولة ما بعد إسرائيل؟ وإذا كان هذا الاحتمال الأخير مقبولا، أليست الدولة المستقبلية ستكون دولة مختلطة؟ وسيظل الوافدون مواطنين فيها؟ ألا توجد طريقة أخرى ممكنة للوصول إلى شكل كهذا؟
تلك تساؤلات أطاحت برءوسنا، وجعلتنا نعيد النظر في واقعية هذه الأطروحة.
ذهبنا إلى فكرة بديلة، قال عنها أصحابها: إنها الممكن الذي نستطيعه، وخلفنا كل العالم يدعم مطالبتنا بهذا الجزء من الحق الفلسطيني، وهناك أيضا قرارات دولية جاهزة، وهي ما يعترف لنا العالم به في هذه اللحظة الراهنة، وإن حصل وتغيرت المنطقة- كما يعدنا أصحاب الخيار الأول- فإننا سنطالب بما تبقى من الحق، أو بالأصح سنأخذه بالقوة، ولن نكترث بزعم من سيزعم أننا ننقض عهودنا، فنحن نعاهد اليوم مكرهين، ونقبل مكرهين بالتنازل عن المطالبة بكل حقوقنا، والمكره ليس مطالبا بما أكره عليه، وأصلا: فإن القوة على الأرض سترسم حدودا جديدة للحقوق، فالحق في دنيا الناس تصنعه القوة، ولا يصنع هو القوة، وإلا كيف يرى العالم في وجود إسرائيل حقا، ووجودها قمة الباطل، وليس له أي مبرر أخلاقي؟ إنها القوة إذن، وحينما تتوفر سنعيد ترسيم الحقوق، ما يعني أننا لم نتراجع- استراتيجيا- عن فكرة إزالة إسرائيل، إنما مرحليا فقط، نظرا لعدم توفر مقومات إزالة إسرائيل في هذه اللحظة الراهنة.
سنعترف، أن شيئا من هذا المنطق وجدناه عقلانيا، فطالما أن فكرة الإزالة الكاملة تعتمد أصلا على قوة غير متوفرة الآن، فلماذا لا نناور بالممكن؟
اقرأ أيضاً: المدارس الخاصة في غزة.. هل تُقدم المستوى الحقيقي للطلبة؟
قال أصحاب هذا الخيار: إن هذا الهدف الجزئي، أو المرحلي إن شئت، سنحققه بالتفاوض، فالحياة مفاوضات..! ولنجرب، تساءلنا: هل تقبل إسرائيل فعلا بمنح الفلسطينيين تلك الحقوق الجزئية؟ فنحن هنا لا نتحدث عن حل مرحلي سيفرضه العالم، إنما عن وسيلة وحيدة، هي المفاوضات، وفي المفاوضات يستخدم المفاوضون كل ما يمتلكون من أوراق القوة، ما يعني أن الأقوى سيفرض- إلى حد كبير- رؤيته للحلول المتوقعة، وفي المفاوضات أيضا، فأنت تحتاج إلى موافقة خصمك الذي تفاوضه، راغبا، أو كارها، وإسرائيل ليست راغبة، ولا يبدو أننا قادرون على إكراهها، فكيف سننتزع منها هذا الجزء من الحق الذي نسميه مرحليا؟
وعلى العموم، فمن حقنا بعد ثلاثين عاما بعد انطلاق مدريد أن نتساءل: هل استطعتم أن تفرضوا على إسرائيل منحكم الجزء الذي قلتم أن العالم اعترف لكم به؟ ولربما من حقنا أن نسأل: إن كان العالم لا يزال على رأيه أصلا فيما اتخذه من قرارات سابقة، خاصة فيما بتعلق بالأراض المحتلة عام ٦٧، أو حق عودة اللاجئين، أو موقفه من القدس؟
صحيح أننا لسنا ممن يدعو لإهمال الرأي العام العالمي، لكننا دائما ما نميز بين الحكومات، والشعوب، ولعل المفاوضين الفلسطينيين اعتمدوا على دعم الحكومات أكثر من تركيزهم على دفع الشعوب للضغط على حكوماتهم، مع اقرارنا بأن الفلسطينيين المفاوضين استطاعوا فعلا منازعة إسرائيل على دور الضحية، الذي أرادته دائما لها، ولعلنا هنا- بخلاف ما يراه الثوريون..!- نرى في لغة الرئيس الفلسطيني الخارجية أسلوبا نضاليا تبغضه إسرائيل، فهي تريد أن تظل صورتها صورة الضحية، التي تطالب العالم بالتعاطف معها، ومساعدتها، لا أن يضغط عليها، بينما استطاع الرئيس الفلسطيني أن يشوش على هذه الصورة المزيفة التي تروج لها، وتريدها إسرائيل، ولربما كان يمكنه أن يحشر إسرائيل أكثر في الزاوية، لولا ما يساعد به بعض الفلسطينيين إسرائيل.
أيضا: صار واضحا أن أصحاب فكرة الحياة مفاوضات أنفسهم لم يعودوا مقتنعين بجدوى المفاوضات، هذا ناهيك عن حجم العقبات على الأرض التي خلقتها إسرائيل كي تدمر خيار المفاوضات، والتي نعرفها جميعا.
ماذا بعد؟
هكذا وجدنا الصورة إذن.
أليس من حقنا أن نفكر- كفلسطينيين وحسب- بمخارج جديدة، حتى لو لم نكن متنفذين؟
نحن قررنا أن نفكر، وهم قالوا: وهل منعكم أحد من التفكير؟ والحقيقة أنهم لو استطاعوا النفاذ إلى عقولنا ومنعنا من التفكير لفعلوا دون تردد لكن هذا غير ممكن، لذا فهم حقيقة لا يستطيعون منعنا من التفكير، لكن، يا ويلنا إن فكرنا بما لا يناسبهم..! فالتهم جاهزة، ومشنقة العقوبات تتدلى أمام ناظرينا.
المهم: نحن نفكر في حل نستطيعه، لكنه لا يعني تنازلا عن حقوقتا، ولا قبولا حتى ببقاء هذه الدولة، حل نفرضه على إسرائيل، دون أن ننتظر موافقتها، ومن غير الضروري أن نستخدم ذات أدوات النضال القديمة، التي تتفوق فيها إسرائيل، فالأدوات ليست غايات في نهاية المطاف.
تلك هي الساحة التي تشغل بالنا، وهذا ما نبحث له عن وسائل جديدة، لكن المهم الآن، وكمقدمة لأي حل نسعى لفرضه أن نحافظ على بقائنا في الأرض، هذا وحده هدف وطني كبير من شأنه تحطيم حلم إسرائيل الشيطاني، القائم على فكرة إخلاء الأرض من أهلها، تمهيدا لاحتكارها من الغازي المحتل.