من يحكم يسيطر وليس بالضرورة أن من يسيطر يحكم، فكم من أمم سيطرت وهيمنت وتغلبت عبر التاريخ لكنها مرت منه كمرور السهم من الرمية، لا اثر لهم ولا بنيان ولا حسن ذكر في تاريخ الإنسان، أما من حكم في الناس وأقام العدل في معاشهم ومواردهم ومنافعهم يؤكد التاريخ على ارثه الحضاري مهما سرى فيه التشويه.
فالسيطرة قد تكون غاشمة همجية ظالمة لا تقيم حكما ولا عدلا أو لا تٌمكن، فلا تقيم سنن الله في أرضه وأسباب النهوض الحضاري التي من أقامها أقيم له السلطان في الأرض، فلا تنهض بها حضارة ولا تنمية ولا تراعى حقوق الناس ولا مشاركتهم في إدارة مواردهم أو تحقيق الخيار الاستراتيجي الذي يرغبون في إدارة هذه الموارد.
فكيف يكون حاكما من لم يحدث دولة مستقرة تراعي التنمية الشاملة المتوازنة بل وهجر العقول ودهور الاقتصاد وضغط على السكان ديموغرافيا وزاد اللجوء والتشرد ودهور الخدمات العامة وحقوق الإنسان وخلق نخبا منقسمة ومراكز للقوى خصوصا الأمنية وحتى فقد شرعية الدولة وحقها الحصري في استخدام القوة "العنف المشروع" بسبب النزاعات فيها، بل وزاد فيها التدخل الأجنبي.
اقرأ أيضاً: عضو مبادرة النوايا الحسنة مفتي فلسطين: سنعلن عن الخطوات العملية لإنهاء الانقسام بعد الاتصال بالفصائل كافة
إن هذه المؤشرات السابقة سمات الدولة الهشة "Fragile State" التي ترتع فيها الكيانات المنقسمة على ذاتها ولم تملك إلا السيطرة، وليست السيطرة نابعة من القوة الغاشمة فقط وإنما قد تنجم من سوء التجيير وسوء فهم الأدوات الديمقراطية في الوصول للسلطة دون مراعاة حقوق المخالفين أيديولوجيا أو القدرة على خلق الاستقرار والتنمية وبناء الروابط المحلية والإقليمية والدولية التي تقود لمشاركة حقيقة لفئات المجتمع وشرائحه السياسية وتحقيق الأهداف المنشودة للأمة، ودون أن تقع في شرك الآخرين والتباكي على مظلومية الحق والانتخاب الديمقراطي، وهو ما حدث في تجارب حكم بل سيطرة الإخوان في العقد الماضي، فيما أشبه بمن قتلوا الحسين وتباكوا على واقعهم ولم يغيروه.
بل إن التنازل عن الحكم أو المشاركة في سلطته التنفيذية أو إيجاد صيغة تشاركية تسمح بمراكمة القوة لتجاوز كافة الضغوط خصوصا الدولية وخلق القبول المحلي والانفتاح على الجميع وخلق حالة التأكد التي تقود للاستقرار لهي أكثر جدوى وقربا من الوصول للسلطة والمشاركة فيها إذا ما قاد هذا التنازل لحكم رشيد يصب في المصالح التنموية المستدامة للأمة سواء السياسية والاقتصادية.
بما يسمح لاحقا بالتحدي للإرادات الدولية المعارضة للنسق القومي في الحكم القائم على تراث الأمة وتاريخها وحاجاتها الحقيقية.
وبعض التجارب الأوروبية شاهدة منذ بدايات القرن العشرين في التنازل عن السلطة التي جاءت بآلية ديمقراطية تماشيا مع الإرادة الخارجية الجارفة والبقاء في الظل للحفاظ على الاستقرار وتحقيق القوة الاقتصادية والتنموية، وحتى تلك التي أرغمت على صيغة إجبارية مثل المهزومين في الحرب العالمية الثانية مثل اليابان وألمانيا وايطاليا قدموا إطارا واضحا للحكم ومعانيه ببناء الإنسان الذي يعيد مكان مشاركتهم وتأثيرهم الدولي وتحقيق القيم السياسية والاقتصادية العامة الأسمى والتي تشكل جوهر حاجات الأمة ومصلحتها من التنمية والحكم الرشيد بكل أركانه، وتجارب بعض "الأحزاب" المتطرفة بأوروبا كذلك. ويمكن النظر أيضا للدول الناشئة مثل دول BRICS وهي اختصار للبرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والصين وأضف لها تركيا كيف قادها الحكم الرشيد Good Governance إلى القوة الذاتية والتنمية والتأثير الدولي، بينما وازاها العرب قوة وحضورا قبل عقود وباتوا اليوم الأبعد عن الدول المستقرة بل دولا هشة ومن أعلى القيم على مؤشر الدول الهشة مقارنة بنظرائها وعلى تفاوت بينها. ويمكن النظر لكتاب Why nations fail? لماذا تفشل الأمم للاطلاع على عشرات التجارب التي تظهر أن الحكم الرشيد هو معيار نجاح الدول وفشلها.
وما زلنا نحن نصفق لحالات السيطرة مثل طالبان مؤخرا، وكم من طالبان فينا، ونحن نعلم أنها لا تحكم ولا تقيم صرفا ولا عدلا فهي تسيطر ولا تحكم ولن تتمكن من أن تحكم ذاتيا وخارجيا لان القيم والمظاهر الشكلية أكثر جوهرية لدينا من جواهر الأمور والقيم الجوهرية.
لا عبرة حقا في السيطرة العسكرية التي تقود حتما لتأليه الطبقة الحاكمة والدفاع المستميت عنها والتبرير الخالص لها، وإثرائها وفسادها. وإنما العبرة بالوصول للحكم الرشيد للسلطة الذي يقود لقيم تداول السلطة والمشاركة فيها وتعديل مسارها وتحقيق أهداف أمتها.