هل حل الدولتين لا يزال واقعياً؟

محمود عباس
محمود عباس

سأعترف قبل الشروع في النقاش حول إجابة هذا السؤال أن لي وجهة نظر غير محايدة، بمعنى أنني أتبنى إجابة ما، وربما صيغة السؤال ذاتها تحمل في طياتها إجابة  أقرب إلى النفي منها إلى الإثبات، لكن هذا لا يعني أن باب النقاش بات مقفلاً، ولا أنني سأعتمد على الإجابة للاستدلال على صحة خيار آخر، فليس حتمياً أن تؤدي الإجابات النافية لصحة خيار ما إلى إثبات صحة خيار آخر، ومن المفترض أن يتم فحص كل الخيارات الفلسطينة كل على حدة، وليس كما يطيب للبعض بأن يعتمد في إثبات صحة خياره، على بطلان خيار منافس، وهذا للأسف ما تقدمه القراءات السطحية لوقائع السياسة، فإن كانت المقاومة التي تسعى لتحرير كل فلسطين لم تنجح في إنجاز مشروع التحرير، فإذن، فإن الخيار حول مفاوضات الدولتين هو الخيار الحق..! أو العكس مثلاً، بأن يستدل رافضو حل الدولتين على اعتبار فشل المفاوضات حتى اللحظة في إنجازه دليلاً على صوابية الخيار العسكري المُبشر بإزالة إسرائيل بقوة السلاح..!

بكلمة أخرى: يمكن لك أن تقدم أدلتك على فشل خيار ما، أو عدم واقعيته، أو صلاحيته من الأساس، لكن ما تقدمه هنا لا يكفي دليلاً على صوابية بدائلك بالضرورة، بل إن بدائلك أيضاً لا بد وأن تخضع للفحص بدورها، فلعلها أكثر فشلاً من الخيارات الأخرى.

بالعودة إلى السؤال أعلاه: هل حل الدولتين لا يزال واقعياً:

كما قلت: فإنني لست محايداً في البحث عن الإجابة، بل إنني أقرب إلى التشكيك في مقولة واقعية حل الدولتين، ليس انطلاقاً من مبدأ الانتصار إلى خيار آخر- وإن كان هذا من حق كل فلسطيني مهموم بفلسطين- ولا رغبة مني في الطعن في نوايا، ووطنية أصحاب هذا الخيار، أو أي خيارات أخرى، فنحن نعترف لأصحاب خيار حل الدولتين من خلال المفاوضات بالأسبقية في النضال من أجل كل فلسطين، وبأسبقية الاحتكاك بالعالم، وباكتشاف حقيقة أن العالم لن يسمح- في المدى المنظور على الأقل- بإزالة إسرائيل، وأن الحلفاء العرب أضعف من أن يتبنوا فكرة كهذه، لأسباب كثيرة جداً، تجعلهم أيضاً غير متهمين بالتآمر، إنما بالعجز لأسباب ذاتية، وموضوعية.

باختصار: نحن نعترف لأصحاب حل الدولتين بأن ذهابهم تجاه هذا الخيار لم يكن من باب النزهة، ولا التفريط، ولو استطاعوا غيره ما ذهبوا إليه، ومن هنا فإن نقاشنا حول واقعية حل الدولتين لا يقف على أرضية التشكيك والاتهام أبداً، بل ربما نبدي احتراماً خاصاً للعقل السياسي المرن، الذي لا تقوده الشعارات، ولا يستسلم للمقولات الأيدلوجية غير المفحوصة، إنما ينبش في ثنايا واقعه المحيط بحثاً عن ثغرة ما، يمكنه أن ينفذ من خلالها لتحقيق ولو جزء من الحق الفلسطيني التاريخي.
صحيح أيضاً أن حل الدولتين هو الحل المعترف به دولياً، وحتى اللحظة لم تتنكر له حتى أكثر الدول تحالفاً مع إسرائيل، حتى أمريكا ترامب لم تتنكر له من حيث المبدأ، إنما حاولت تقزيم الدولة الفلسطينية المنتظرة جغرافياً، وسياسياً، لكنها لم تلغ فكرة الدولتين، وما بعد ترامب عاد الحديث عن ضرورة حل الدولتين، ولا يزال العالم كله يزعم دعمه لهذا الحل، مما يضفي على القول بأنه الحل الواقعي الحقيقي شيئاً من المصداقية، ولو الشكلية، لكن هذا الدعم اللفظي، وربما المعنوي، أو حتى السياسي لم يصل بعد إلى حد محاولة فرضه على إسرائيل، التي لا تزال تتنكر له، وتفرض وقائعاً جديدة كل يوم على الأرض لعرقلته.

على أن هذا الرفض الإسرائيلي لحل الدولتين على حدود الرابع من حزيران لعام 1967م ليس هو العقبة الوحيدة أمام هذا الخيار، فهناك عقبات حقيقية، عند فحصها لا يبدو الحديث الواقعي دقيقاً، هناك المستوطنات، والقدس، واللاجئين، وكل واحدة من هذا القضايا الثلاث كفيلة وحدها بنسف المبدأ الذي أقيمت عليه المفاوضات، وبنيت عليه فكرة حل الدولتين، ولعل كل واحدة من هذه القضايا الثلاث تحتاج إلى كتاب وحدها، وربما كتب، لبيان استحالة حلها، حيث باختصار، ليس من المتوقع أن تنتج الحالة الثقافية الإسرائيلية زعيماً واحداً يمكنه أن يقبل بفكفكة مستوطنات الضفة، أو التنازل عن القدس الشرقية، أو عودة اللاحئين، وفي المقابل، لن تجد فلسطينياً واحداً يمكنه أن يقبل بالتنازل عن هذه القضايا.

اقرأ أيضاً: “بزنس التعليم” معضلة أولياء الأمور في المدارس الخاصة بالضفة

هناك من يزعم أن سابقتي سيناء، وغزة يمكنها أن تتكرر مع مستوطنات الضفة، لكني شخصياً أرى في هذا الزعم مجرد وهم، أو مقارنة غير دقيقة، فالضفة ليست سيناء، وليست غزة في العقل الصهيوني، أو العقل التوراتي، الضفة جزء مما يزعم الخطاب الصهيوني بأنه تاريخ اليهود، والتوراة، بل هي التاريخ ذاته بالنسبة للمزاعم الصهيونية، كما أن مقارنة بسيطة بين طبيعة مستوطنات الضفة، ومستوطنات سيناء، أو غزة تقول بوضوح: إن هذه ليست تلك، وأن مستوطنات الضفة الخرسانية وجدت لتبقى، وليس لتكون مجرد ورقة تفاوضية، فهي مدن كاملة قائمة بذاتها، وكلها تقريباً بنيت على أسس دينية توراتية، لم يبنها اليمين الإسرائيلي وحده من دون اليسار، بل اليسار هو من وضع مخططاتها وغاياتها، وأسس لبقائها، ما يعني أن تبسيط المسألة بالقول: إن فكفكتها ممكنة وبسهولة عند التوصل إلى أي اتفاق هو مجرد قول ليس عليه أي دليل، وهو حقيقة بحاجة إلى فحص مبني على دراسة طبيعة تلك المستوطنات، وأعداد قاطنيها، ومواقعها، وعلاقة ذلك بالتاريخ التوراتي المزعوم.

ثم ماذا عن القدس؟
 

حتى فكرة تدويل القدس لن تجد صهيونياً واحداً يقبلها، ولن تجد فلسطينياً واحداً يمكنه التسليم ببقاء القدس خارج السيطرة الفلسطينية، فالقدس هي درة تاج القضية الفلسطينية، ولن يكون هناك أي معنى لأي منجز حقيقي بدون القدس.

ثم، هل من المتوقع أن تقبل إسرائيل طوعاً عبر المفاوضات بفكرة عودة اللاجئين، التي تعني نهاية فكرة الدولة اليهودية التي بنيت عليها الصهيونية؟

هذا مجرد عرض للمشكلات التي لا تبدو حلولها ممكنة، ولا يمكننا بيع مزيد من الوهم لشعبنا حول واقعيتها، دون أن نبين لهم بالأدلة، كيف يمكن أن ننجزها، ومتى.

مرة أخرى:
 

ليس في قولي أعلاه دليل على صوابية خيار آخر، فكل الخيارات يجب أن تُفحص وفقاً لمقولاتها، ومزاعمها، وليس وفقاً لشعاراتها، ولا وفقاً لمحاولات أتباعها شيطنة أي محاولة بحثية، فنحن لا نتحدث عن شئون خاصة بجهات فصائلية معينة، إنما عن وطن مملوك للجميع، ومن حق الجميع أن يفكر فيه، وله.

أعرف أنني لم أقدم تفصيلاً كافياً حول جذرية العقبات التي ذكرتها، وهي كما قلت بحاجة إلى كتب مستقلة لكل منها، لنتبين من إمكانية الحصول عليها بالمفاوضات، أو إن كان من الممكن البحث عن وسائل أخرى تمكننا من فرض خياراتنا، ليس بالضرورة بقوة السلاح، الذي تتفوق فيه إسرائيل، وربما تعتبره ميدانها المفضل لحسم معاركها، إنما عن وسائل أخرى نستطيع من خلالها تحييد هذا السلاح، واستبداله بوسائل قد نتفوق في بعضها على إسرائيل.
لا شك أن لهذا الحديث بقايا كثيرة، وليس بقية واحدة، وهو بحاجة بالفعل إلى المزيد من التفصيل.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo