انهيار الطبقة الوسطى .. الأسباب والآثار

سيدة تعمل في الزراعة
سيدة تعمل في الزراعة

تعتبر الطبقة المتوسطة عماد المجتمعات ومحركها الفاعل اقتصاديا وثقافيا لما تلعبه من دور في أساس في الإنتاج والمساهمة الإبداعية في القيمة المضافة لما تمتلكه من مستوى علمي، كما ينجم عن ذلك قدرتها من تشكيل الطلب الفعال والتراكم الادخاري مما يحفز الطلب الاستثماري طبعا، وتتعزز هذه الطبقة بالبنى التحتية الاجتماعية كالتعليم والصحة التي تعزز بدورها قدرتها في خلق القيمة المضافة والمساهمة الإبداعية في الإنتاج والفكر، فتمتلك دورا طليعيا في صياغة منظومة القيم الاجتماعية والثقافية وتؤثر على الطبقات الأخرى في المجتمع. إلا أن حجم ودور وفعالية يحدد قطعا بالسياسات العامة خصوصا الاقتصادية كما الهياكل والعوامل المؤسسية والقانونية، مالية او نقدية او مؤسسية أو تنظيمية، التي يمكنها إعادة تشكيل هذه الطبقة عبر الزمن.

وقد ساهمت السياسات العامة السائدة في فلسطين كما التغيرات والصدمات التي تعرض لها المجتمع الفلسطيني لآثار هامة وجوهرية في فلسطين خصوصا في قطاع غزة.

إن البنى والهياكل المؤسسية العامة حديثة التشكيل وتأثرها بمحددات داخلية وخارجية كالاحتلال، وضعف بناها التحتية الاجتماعية والمادية وعدم وجود رؤى رصينة وواضحة ومحددة لأنظمتها السياسية والاقتصادية، وما نجم عن هذه البنى من سياسات اقتصادية لهي جلية وشديدة التأثير على كافة النواحي المجتمعية بما فيها حال الطبقة المتوسطة. ان الصدمات والتغيرات الغير تقليدية مقارنة بالاقتصاديات التي تنتمي لنفس فئة الدخل والتي قادت لتردي غير مسبوق في المؤشرات الاقتصادية بقطاع غزة. ان خمس عشرة عاما من الحصار والانقسام السياسي تمثل نصف عمر السلطة الرسمية الوليدة، والعديد من الهجمات المسلحة مع نطاق واسع من التهجير، والتدمير، وإعادة البناء المقيد، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي إلى وضع معقد بعمق. قيود الأفراد وحركة عوامل الإنتاج ؛ صدمات الأسعار والتقلبات العالية وانحطاط الأجور؛ الأزمات المزمنة للمياه والصرف الصحي والطاقة والكهرباء تؤدي إلى تفاقم أنظمة الإنتاج. بلغ معدل البطالة بين الشباب والباحثين عن الهجرة والفقر 63٪ و 37٪ و 75٪ على التوالي. إن تدفقات رؤوس الأموال الدولية مثل التحويلات المالية وتوصيل المساعدات باتت أكثر تكلفة وتواجه عوائق متزايدة.

أسوأ الأزمات تواجه الصحة والتعليم وتراجع دور الأونروا وأزمتها، وتقليص نسبة 50٪ من رواتب موظفي السلطة الفلسطينية إلى تدهور المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية العامة، مما أدى إلى تزايد اعتماد السكان على المساعدات، في حين يحتاج 1.2 مليون شخص إلى المساعدات الإنسانية. كل هذا أدى إلى وضع مناهض للتنمية في غزة وتقلص الطبقة المتوسطة.

السياسات المالية والموازنة العامة

البنى التحتية الاجتماعية المعزز الأساس للطبقة المتوسطة والذي تعزز مع قدوم السلطة إلا انه حافظ على هيكل للإنفاق العام متحيز بنيويا بشكل قطاعي وجغرافي وترسخ بعد الانقسام أدي لتراجع جودة ومستوى الخدمات الصحية والتعليمية من حيث الإنفاق الجاري والرأسمالي على مدى أكثر من عقد مما حاصر الطبقة الوسطى وأدى لانكماشها. إن عدم صيانة التعليم وضمان جودته واختراق التعليم "الوهمي"  كان أثرا للسياسات الحكومية المالية والتشريعية والتنظيمية في مجال التعليم مما أوقع الطبقة الوسطى في شركه. وقد انسحبت هذه السياسات على المجال الصحي وترديه وتراجع الإنفاق النسبي عليه وعلى مجال حماية البيئة خصوصا الرأسمالي وحماية المستهلك مما رفع تكلفة الرعاية الصحية في ظل قيود الدخل المشار لها سابقا.

ان السياسة المالية الفلسطينية انعكاسا للسياسة الإسرائيلية والتي تتمثل في اتفاق باريس الاقتصادي الراعي الحصري لهذه السياسات حتى الآن وعلى الرغم قوائم الاتفاق والتي تتضمن سلع استهلاكية ضرورية إلا أن السياسة المالية والتجارية لم تواجه ارتفاع أسعار هذه السلع وتقلباتها مما أرهق الطبقات الوسطى والدنيا في ظل جمود الأجور وارتفاع الأسعار والمساكن والخدمات واستباحة منظومة التامين المعاشات مما زاد القلق حول الدخل المستقبلي.

صعوبات التمويل

نجا الاقتصاد الفلسطيني من القطاع الإنتاجي العام وغرق في التوسع الحاد للجهاز البيروقراطي الحكومي لأغراض التحشيد الحزبي وعلى الرغم من تعزيزه للطبقة المتوسطة الا انه قاد مؤخرا لتراجع التوظيف العام عبر قانون الخدمة المدنية والتقاعد المبكر وسوء "إعادة الهيكلة"وهي على الأرجح محاكاة لسياسات التعديل الهيكلي لصندوق النقد الدولي إلى اهتزاز الطبقة الوسطى وتراجعها وتراجع قدرتها في الإنفاق على التعليم ارثها الرئيس كما أوجه الإنفاق الضروري الأخرى،بالإضافة لانخفاض قدرة استيعاب القطاع العام في الأصل وتزايد الخريجين وتفشي بطالتهم.

تردي مرونة جانب العرض والتشابكات القطاعية والاحتكارات وعدم وجود سياسات مالية وسياسات جانب العرض وغيرها داعمة للمشروعات الصغيرة وقيود الاحتلال أدى لاختلال التوازن في عوائد سلسلة القيمة جعلت الطبقة المتوسطة مستباحة لرأس المال الانتهازي لامتصاص اجورهم من جهة ودخولهم  بسبب حالة جمود الاسعار وعدم مواجهتها من جهة اخرى.

بالإضافة لتزايد المديونية العامة مع تراجع الخدمات ضغط على الطبقة الوسطى والدنيا وشمول الضريبة لمحدودي الدخل والتهرب الضريبي للاحتكارات بالاضافة للبيروقراطية والفساد وتزاوج رأس المال والسلطة ودورها في تشويه الأسعار وعوائد العمل ورأس المال قاد لزيادة فروقات توزيع الدخل مما فاقم الفجوة بين الطبقات وانكماش الطبقة الوسطى.

العوامل المؤسسية والقانونية

حوالي 250 قانون وقرار بقانون بين غزة والضفة خلال الانقسام يشوبها عدم تمثيل او مشاركة أصحاب المصلحة الا من النافذين أصحاب القدرة على الوصول للقرار الريعي السلطوي ونفوذ مجموعات اضغط الرأسمالي، وتراجع دور الاتحادات والنقابات العمالية والمنظمات غير الحكومية والجامعات وتأثير الأحزاب الراعية للتوجهات الحكومية عليها. 

كما أن الاقتصاد الفلسطيني مصدر لخدمات العمل من ذوي المهارات المرتفعة ونصف الماهرة التي تعزز دور عائلاتها عبر التحويلات الخارجية  Remittancesالا ان عدم توجيه وحماية ورعاية عوائد العاملين وتحويلاتهم وسياسات الحصار وتراجع حركة الأفراد والقيود المالية قلصت التحويلات جوهريا، بسبب خلل البنية المؤسسية والقانونية وتجاهلها لهذا الإطار.

ان الانقسام وما ترتب عليه من ارهاق مؤسسي للشركات خصوصا الصغيرة والمتوسطة وازدواج ضريبي ونقل العبئ للمستهلك ارهق الشرائح المتوسطة ودفعها باتجاه محدودة الدخل.

الموارد الريعية (المساعدات الخارجية)وتعزيزها لصراع الأحزاب في السلطة والفساد والظلم الاجتماعي، وتعزيز الإنفاق الجاري الممول للاستيراد أدى لمزيد من الضغط على الطبقة الوسطى وانسلال بعضها للطبقة العليا المتنفذة والمتحكمة، وتساقط الكثير للطبقة الدنيا او للفئات اللاطبقية بسبب فقدان الدخل والأثر التعويضي في سوق العمل. في الواقع لقد عززت هذه الموارد الطلب على القطاعات غير المتاجر فيها كالإنشاءات والخدمات مما عزز دور الطبقة الوسطى الا ان قيود الانقسام والحصار وتراجع الدخول حد من ذلك.

اقرأ أيضاً: شبهات حول الديمقراطية..!

القرارات والسلوك الريعي المماهي لرأس المال الكبير والحكم غير الرشيد وعدم المحاسبة وتزاوج راس المال والسلطة والفساد  وهيكل الضرائب المحابي للهياكل الاحتكارية التي تراكم رأس المال عبر الأرباح الاحتكارية والاندماج والاستحواذ الافتراسي والقدرة على التهرب الضريبي وتهريب رأس المال والادخارات، في ظل عدم القدرة على التهرب من الضرائب المباشرة للعاملين في هذه الهياكل والشركات الكبرى والقطاع العام زاد فجوة توزيع الدخل والثروة ومحاصرة هذه الطبقة. كما ان تفشي القطاع غير الرسمي وعدم تمتع العمالة والبرجوازية الصغيرة بالحماية والتأمينات والتعويضات والحقوق المختلفة زاد في إرهاقها بسبب فشل المنظومة المؤسسية والقانونية في تنظيم الاقتصاد ومشجعة لرأس المال الصغير.

عجز المنظومة المؤسسية والانقسام في ظل تدمير تكوين رأس المال الثابت عبر الهجمات الإسرائيلية المسلحة وصدمة إعادة البناء الاقتصادية للأغراض السياسية بتحويل الموارد طويل الأمد للقطاعات الاقتصادية الإسرائيلية بل وحسب قدرة وطاقة السوق الإسرائيلي وفائضه مما يعزز التبعية الاقتصادية ويزيد من الأعباء المعيشية على الطبقة المتوسطة خصوصا.كما ان عدم وجود سياسة إسكانية لدعم إسكان متوسطي كما محدودي الدخل عبر إستراتيجية وطنية وبالمدخرات القومية.

السياسات التجارية واقتصاد الفقاعة المتمثل في ازدياد الطلب على القطاعات غير المتاجر بها وارتفاع أسعارها وأجور العاملين بها بشكل اقل وازدياد الاعتماد على الواردات الممول عبر تدفقات رأس المال الدولية الداخلة بشكل مباشر أو عبر الإنفاق الحكومي الجاري بشكل غير مباشر ادى لتراجع القطاعات الإنتاجية مما أنهك البرجوازية الصغيرة، كما أن الانقسام وتحويل التجارة عبر الإنفاق مع مصر بشكل كلي سابقا او جزئي حاليا او عبر السلوك الريعي بالوصول للقرار السيادي المصري والأمني أدى لأثرين حادين على هذه الطبقة أولهما تمثل في تحويل جزء هام من عوائد التجارة لتمويل السلوك الريعي بامتصاصها من تجارة التجزئة الصغيرة وثانيهما بفقدان الحكومة لعوائدها التي يفترض ان تعود على شكل الإنفاق الاجتماعي المعزز لهذه الطبقة.

القطاع المصرفي والسياسات النقدية

يعزز القطاع المصرفي الائتمان الاستهلاكي الممول للاستيراد والقطاعات الغير متاجر بها كالإنشاءات بعيد عن التمويل للقطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة، بل ويشكل قناة لتهريب الأموال واستثمار المدخرات بالخارج، مما إلى تراجع إمكانية تعزيز دور  الطبقة المتوسطة في العملية الإنتاجية ودعم المشاريع الصغيرة التي تشكل عمودا أساسيا في مشاركتها الاقتصادية، كما لم يلعب القطاع المصرفي والسياسة النقدية الراعية والمنظمة له أي دور في تمويل مشاريع إستراتيجية وقومية اجتماعية إسكانية او بنى تحتية او تمويلية مما كان يمكن ان يساهم في مكاملة الدور الحكومي العاجز أصلا في هذا الإطار، في تعزيز الاقتصاد ومشاركة هذه الطبقة واستفادتها الاقتصادية من المدخرات المحلية بل والقومية.

الهياكل الحزبية

تشكل الطبقة الوسطى القاعدة للأحزاب السياسية والأكثر انخراطا في مؤسسات المجتمع المدني والاتحادات والنقابات واتحادات الأعمال إلا أن هذه النقابات تعاني من السلوك الريعي الحزبي مما يضعف دور انخراط هذه الطبقة ويساهم في تقلصها.

المال شبه الرسمي الحكومي والحزبي

نمو فئات طفيلية استطاعت عبر الحروب والتهريب والسمسرة والاتجار بالسلاح وارتكاب الجرائم بما فيها الاقتصادية واستخدام ونهب واستغلال المال العام التسلل إلى وعلى الطبقة المتوسطة وتحييد إمكانية استقرارها، بل استطاعت أن تتسلق للطبقات المتنفذة وتضعف حجم الطبقة المتوسطة اقتصاديا ودورها من حيث المشاركة السياسية.

ويمكن تعزيز الطبقة المتوسطة من خلال تقليص البطالة ومكافحة الفقر عبر إستراتيجية تنموية تراعي العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الدخل وإعادة هيكلة الإنفاق العام وزيادة الإنفاق على التعليم والصحة وتحسين القوة الشرائية وتشجيع سياسات حكومية وتمويلية داعمة للمشاريع الصغيرة لخلق فرص للعمالة الماهرة ومراجعة الهيكل الضريبي وتنظيم السوق ومراقبة الأسعار وحماية المستهلك، مما يسمح بمغادرة فئات للطبقة العمالية والفئات اللاطبقية ممن تنطبق عليهم شروط الطبقة الوسطى عدا فرصة عمل بالقطاع العام او الخاص.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo