شبهات حول الديمقراطية..!

الرئيس قيس سعيد
الرئيس قيس سعيد

اختلف الناس- كعادتهم- حول الحدث التونسي، فمنهم المؤيد لإجراءات الرئيس قيس سعيد، ومنهم المعارض، وهذا ما يحدث عادة حول أي قضية أياً كانت، فالناس مختلفون، ومن المؤكد أن قراءة المختلفين لأي حدث لن تكون متطابقة.

لا أنوي هنا مناقشة أي من الفريقين، ولا التدليل على صحة أي من المواقف، إنما أرغب في لفت الانتباه إلى قضية أخرى:

إن جزءاً كبيراً ممن قرأت لهم- مؤيدين أو معارضين- لم يهتم بقانونية، أو عدم قانونية الإجراءات، ولا إن كان يمكن وصفها بالانقلاب، أو لا، إنما ارتكز على رؤيته تحديداً لجماعة الإخوان المسلمين، فمؤيدوها ضد إجراءات الرئيس التونسي، بغض النظر عن قانونية الإجراءات، أو عدمها، وبغض النظر أيضاً إن كانت اللحظة التونسية تحتاج لها كما يزعم فريق الرئيس التونسي، ومؤيدوه، أو إن لم تكن اللحظة بحاجة إلى شيء من هذا القبيل.

لم تكن المبررات قابلة للفحص، حيث يكفي أن المتضرر منها هم جماعة الإخوان، ليعارضها كل منتسبي الإخوان في أي مكان في الدنيا، فنحن مع الجماعة ظالمة أو مظلومة..!

عكس هذا الكلام بالتمام والكمال، ينطبق على مؤيدي إجراءات الرئيس التونسي، قانونية كانت تلك الإجراءات، أو غير قانونية، إنقلاباً، أو أي شيء آخر، المهم أن نتخلص من الإخوان، مثل هذه المعادلة تعيدنا إلى نقطة الأصل في العلاقة بين الإخوان المسلمين وغيرها من الفصائل الوطنية، أو ربما بين الإسلاميين والوطنيين.

يتهم خصوم الإخوان حركة الإخوان بأنها حركة غير ديمقراطية، وأنها تستخدم الديمقراطية ولا تؤمن بها، ومن الخطر أن نسمح لها باستخدام الديمقراطية، خاصة وأن الثقافة الشعبية في المنطقة العربية لا زالت متدنية، ويمكن للخطاب الشعبوي- خاصة المُستخدِم منه للدين- أن يؤثر على ديمقراطية الاختيار، كما أن الإخوان لن يكتفوا بإدارة الدولة وإنما التمكن منها من خلال زرع متعمد لمنتسبيها في المفاصل الرئيسية للدولة، وفقاً لفكرة التمكين التي لا تزال جزءاً من أدبيات الإخوان.

وللحق فإنني شخصياً أوافق على هذه المقدمة- جزئياً- دون أن أوافق على ما يراد أن يُبنى عليها، بمعنى أنني أيضاً أتهم حركات الإسلام السياسي، والإخوان من ضمنها، بأنها أبعد ما يكون عن الإيمان بالديمقراطية كثقافة، وليس في قولي هذا تعسفاً، فالمقولات التأسيسية للإخوان والتي أطلقها كل من الشيخ حسن البنا، وسيد قطب، وهما الرمزان الأكثر حضوراً في أدبيات الإخوان تعتبر الديمقراطية نظاماً كفرياً، وتجعل من هدف تطبيق الشريعة، وإقامة الخلافة الإسلامية هدفها الاستراتيجي، ولا أظن أن التناقض بين هاتين الفكرتين والديمقراطية يحتاج إلى الكثير من الشرح، مع أهمية إضافة ملاحظة هنا: أن الشريعة التي تتحدث عنها فصائل الإسلام السياسي ليست مقتصرة على ما نطق به النص القرآني، إنما تشمل إضافات الفقهاء، أو ما يمكن أن يضيفه الفقهاء للتعويض عن الفراغ التشريعي في النصوص، حيث كما قال العلماء قديماً: النصوص محدودة، والنوازل غير محدودة، ما يعني أن الحاجة إلى الاجتهاد ملحة دائماً، ما يعني أيضاً أننا لا نُحكم حتى في الدولة التي تزعم أنها تطبق الشريعة بنصوص القرآن وحده، إنما باجتهادات بشرية سيتم تقديمها هي الأخرى على أنها شريعة، وأنها حكم الله، ما يعني مرة ثالثة أنني سأحكم من قبل بشر مثلي ولكن باسم الله، وبزعم أن الحاكمية لله وحده..!

ليست الأدبيات القديمة وحدها هي التي تركز على فكرة الحاكمية وتطبيق الشريعة، بل إن الأدبيات المعاصرة للإخوان لا تزال تتمترس عند هذه النقطة، وسأضرب هنا مثالاً واحداً من الساحة الفلسطينية:

الجامعة الإسلامية في غزة هي المؤسسة التعليمية الأهم للإخوان فرع فلسطين” حماس” هناك ستجد مساقاً مقرراً على كل طلبة الجامعة كمتطلب جامعي باسم ” النظم الإسلامية” لن تجد أي مشقة في اكتشاف مدى تطابق محتوى هذا الكتاب مع ما كرره وأكد عليه سيد قطب في موضوع الحاكمية، ولا ما جاء متواتراً عن كل شيوخ الإخوان المؤسسين، وعلى رأسهم الشيخ حسن البنا، هذا ببساطة يدعو قارئي حركة الإخوان للتوجس، وللشك فيما يقوله خطابهم الخارجي عن الديمقراطية، والشراكة مع الكل الوطني بغض النظر عن الانتماء الديني، أو السياسي.

ليس هذا الكتاب وحسب، على أهميته تحديداً كونه مفروضاً على كل طلبة الجامعة بكل تخصصاتها، إنما لا يزال الخطاب الداخلي، في المنابر، والمقالات، والفتاوى، والدروس، كلها متمترسة حول فكرة الحاكمية، وتطبيق الشريعة.

لا أعرف إن كان الإخوان يفترضون السذاجة في خصومهم إلى الحد الذي يظنون معه أن هؤلاء الخصوم لا يعرفون الفرق بين الخطاب الخارجي، والأدبيات التأسيسية، لكن الحقيقة أن مسألة كهذه باتت معروفة لدى كل خصوم الإخوان، وهي وحدها كافية لرفع مستوى التوجس من إمكانية انقلاب الإخوان على الديمقراطية، فيما لو تمكنوا من الدولة.

لكن، هل الحل يكمن في إقصائهم بقوة الدولة، أو السيف؟ ألن يدفعهم هذا إلى تبني العنف، وستكون حجتهم جاهزة لذلك؟ ثم :هل أثبت غير الإخوان في أي قطر عربي أنهم ديمقراطيون؟ وأن اختلافهم مع الإخوان محصور في اتهام الإخوان بمعاداة الديمقراطية؟

الحقيقة أن كل الأطراف من خارج الإخوان التي عرفتها المنطقة العربية أبعد ما يكون عن الديمقراطية، مع فارق أنهم لا يؤسسون لمعاداتهم للديمقراطية فكرياً، أو عقدياً، لكن الحقيقة أن الديمقراطية ليست على جدول اهتمامهم، وأنهم في كثير من الحالات العربية حولوا الأوطان إلى عِزَب عائلية، أو جهوية حزبية على أحسن تقدير.

فما المخرج إذن؟

إن الذهاب في اتجاه إلغاء الديمقراطية تحت أي مبرر كان لهو تأسيس لعصر جديد من عصور الاستبداد التي ابتليت بها منطقتنا منذ القدم، إن الحل- من وجهة نظري- يكمن في تحصين الديمقراطية، كأن نشترط على الأحزاب الراغبة في التنافس الديمقراطي أن تتبنى فكراً ديمقراطياً، يجعلها أمينة على الديمقراطية فيما لو فازت في الحكم، كما أن على كل القوى أن تخضع لرقابة الدولة، بأن تضمن الدولة خضوع مؤسسات الأحزاب الداخلية لقوانين الديمقراطية، وأن يتم تحييد أجهزة الدولة الأمنية والمدنية عن التدخلات الحزبية، بأن يتم منع أي تكليفات على أسس حزبية، كما يمكن تجريم استخدام الخطاب الديني التكفيري- تصريحاً أو تلميحاً- الذي يجعل من جهة ما وصية حصرية على الدين، وعلى كل ذلك أن يخضع لمحكمة دستورية ذات سيادة ليست مملوكة للأحزاب، وربما يُحسن منع قضاتها من الانتماء لأي حزب.

المسألة باختصار أننا بحاجة إلى تحصين الديمقراطية، وليس إلى إلغائها، ولا الذهاب تجاه تهميش أي مكون حقيقي من المكونات الوطنية ذات الامتداد الشعبي الحقيقي، لأن فكرة الإلغاء، أو الإقصاء لن تأتي بخير، ولقد جربناها لعقود، وربما لقرون طويلة، وكانت نتيجتها أننا الآن في ذيل القافلة البشرية، وعلى هامش الحضارة الإنسانية.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo