مع دخولِ وقتِ الظهيرة، وردَ اتصالٌ من قيادةِ جيشِ الاحتلالَ على هاتف المنزل مُراده: على سكان رفح عدمُ التنقل بين رفح وخانيونس بواسطةِ المركباتِ والتزامُ البيوت
كانَ هذا الاتصالُ بمثابةِ إعلانٍ مُسبقٍ عن عمليةِ قتلٍ جماعيٍّ ستحدثُ في المدينة، فالعدوانُ على رفحَ يعني قتلى بالمئات، وذلكَ بسببِ الكثافةِ السكانيةِ الكبيرة في منطقةِ «البلد» وسطَ مدينةِ رفح، حيثُ المدينةُ كلُّها تمركزت في حيّزٍ لا يتجاوزُ بضعةَ كيلو متراتٍ عبارة عن مخيمات لللاجئين، بيوتِها متلاصقةً جداً، إذْ إنّ المسافةَ بين البيتِ والآخرِ لا تتجاوزُ النصفَ متر، وفي أحيانٍ عدةٍ تكونُ الجدرانُ مشتركةً بين البيوتِ بدونِ أيِّ فواصل، وهي في الأساسِ مسقوفةٌ من «الإسبست» القديم، وإن كانت بعضُ البيوتِ قد بُنيتْ بالإسمنتِ المسلح، وأصبحتْ في هذا العدوانِ ملجأً لكلِّ النازحين الذين هربوا من الموت. تكدّسَ الناسُ في هذه المساحةِ الصغيرة، يملؤهم الخوفُ الشديدُ من جراءِ التهديداتِ الإسرائيلية.
أما عن المشافي، فسأحدثُك عن مشفى «أبو يوسف النجار» الوحيد في رفح، الذي لا تتجاوزُ إمكاناتُه ومساحتُه لاستيعابِ عشرِ جثثٍ وخمسين إصابة، لأنه في الأصل عيادةٌ جُهزتْ لكي تقومَ بعمل مشفى، وهو يقعُ ضمنَ مدى نيرانِ المدفعيةِ الإسرائيلية، والقصفُ قد يطالُه، أو هو قد طاله بالفعل، وجرى إخلاؤه من المرضى والمصابين في مشهدٍ مرعب.
بعد الإنذارِ الخطيرِ من قِبَلِ قواتِ الجيشِ الإسرائيليّ بإخلاءِ المشفى، عملتْ طواقمُ الإسعافِ على إخلاءِ الجثث، ونظراً لقوّةِ النيرانِ كانتْ الجثثُ تتساقطُ من الإسعاف، والسياراتُ المدنيةُ التي كانتْ تساعدُها في ذلك بسببِ وقلّةِ الوقتِ المسموحِ به في عمليةِ الإخلاء، كانتْ الجثثُ والأشلاءُ تسقطُ على الأرضِ ويعاودُ الناسُ جمعَها وحملَها مرّةً أخرى. كانَ الأمرُ مرعباً جداً، وأكبرَ من أن يوصفَ بالكلمات.
وحصلتِ المجزرةُ في ظلِّ عدمِ وجودٍ للصليبِ الأحمرِ، أو الصحافةِ، أو عرباتِ البثِّ المُباشر. حدثتِ المجزرةُ، وظلَّ الخبرُ غيرَ معروفٍ إلى بداياتِ الفجرِ الأولى.
كلُّ هذا الجنونِ حدثَ مساءَ يومِ الجمعةِ 1/8/2014، حيثُ قامَ الجيشُ الإسرائيليُّ بخرقِ وقفِ إطلاقِ النارِ المُتفقِ عليهِ برعايةٍ مصرية، والذي لم يمضِ عليه سوى دقائقَ، وتقدمتْ دباباتهٌ في شرقِ المدينةِ بحجةِ إنقاذِ أحدِ جنودِه التائهين، واتضحَ فيما بعدُ أنها كذبةٌ، ولا يوجدُ أيُّ جنديٍّ تائهٍ، بلْ يوجدُ جنديٌّ مفقودٌ في العملياتِ العسكريةِ التي حدثتْ هناك.
اقرأ أيضاً: هل يمكن إنهاء الحصار، وهل نريد حقا؟
كانَ الناسُ قد عادوا إلى منازلِهم وقتَ الظهيرةِ لتجهيزِ وجبةِ الغداءِ ليومِ الجمعة، الذي هو يومُ الإجازةِ، ويمثلُ العيدُ الأسبوعيّ لهم، وليسَ لديهم علمٌ بما يجري، فقد كانت شبكاتُ الاتصالِ جميعُها معطلةً؛ نتيجة الاستهدافِ المباشرِ لها، ولخطوط التوزيعِ الخاصةِ بالمحافظات.
يحدثُني صديقي محمدٌ (يروي صابر) بأنهُ سمعَ صوتَ إطلاقِ نارٍ كثيفٍ وغريبٍ وأصواتَ انفجارات سرعان ما علا صوتُها واشتدت حدتُها. وكانَ الناسُ يهربون من البيوتِ أثناءَ القصف، وكأنّ أحدًا يجري خلفَهم يحملُ في يده سكيناً، ويقطعُ الرؤوسَ ويلقي بها على الطرقات. كان المشهدُ وكأنه يومُ القيامة، لا أحدَ ينظرُ للآخرِ، الكلُّ يريد أن ينجوَ بنفسِهِ، القذائفُ تتساقطً على أُسرٍ هاربةٍ، فتبيدُها وكأنّها لم تكن، حدّةُ القصفِ تزدادُ، والجثثُ تتساقطُ على الأرض، فيدوسُها الناسُ بأقدامِهم، ومنهم من تعثّرَ بجثةِ أخيه، وأبيه، وزوجته! عوضاً عن المصابين الذين كانوا يستنجدون بالناس: أنقذونا، اسقونا شَرْبةَ ماء. لا أحدَ يسمعُ لأحد، الموتُ يلاحقُ كلَّ شخصٍ قدْ يُفكرُ أن ينتظرَ ولو للحظة.
كانَ محمدٌ في هذه اللحظاتِ قدْ أخذَ أمَّهُ وخرجَ من البيتِ باتجاهِ الغربِ؛ حتى يتسنى له الابتعادُ عن مكانِ سقوطِ القذائفِ. أثناءَ الهروبِ الكبيرِ سقطتْ قذيفةٌ على بعدِ أمتارٍ من محمدٍ وأصيبتْ زوجةُ جارِه، فتأخر محمدٌ لحظاتٍ لينقذها، سحبتْهُ أمُه من يدِه وطلبتْ منه أن يواصلَ الهرب، إلا أنه رفضَ وقال لأمِه: اذهبي أنتِ، وأنا سأحضرُ جارتَنا وأتبعُك. تركتِ الأمُ ابنها يفعلُ ما يشاء واستمرتْ في الهرب، وذهبَ محمدٌ للجارةِ التي كانتْ لا تزالُ على قيدِ الحياة، لكنّ لا طريقةَ لديه كي يحملَها إلى المشفى؛ بسبب وزنِها الكبير، وإصابتِها الحرجة، فما كان منه إلا أن عادَ إلى بيتِه وأحضرَ عربةَ الحصانِ التي يعملُ عليها وعاد إليها يُسابق الريحَ والقذائف، لكن كانتْ جارتُه قد فارقتِ الحياة، فسبّلَ عينيها، وأراح جسدَها على الأرض، وأخذ يدورُ بين الجثثِ يبحثُ عن المصابين، حتى تمكنَ من إنقاذِ العديدِ منهم وتحميلِهم على عربتِه ونقلَهم إلى مشفى أبو يوسف النجار القريبةِ من الحدث، وعملَ على التواصلِ مع أمِه مرةً أخرى، والعودة إليها لينقلها إلى مركزِ إيواءِ النازحين، الذي كانوا فيه قبل العودة إلى منزلهم.
ما إن وصلَ الناسُ إلى مكانٍ شبهِ آمنٍ على طريقِ صلاحِ الدين شرقَ رفح، حتى تجمعوا في البيوتِ المُطلةِ على الشارع، واختبئوا في ظلِّها عن أعينِ الطائرات، التي كانت تستهدفُ أيَّ شيءٍ يتحركُ على الأرض، في انتظارِ الصليبِ الأحمرِ؛ أن يأتيَ ويعملَ على وقفِ إطلاقِ النارِ أو حتى إخلائِهم والحيلولةِ دونَ أنْ تتسببَ القذائفُ بقتلِهم، ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي. كانتِ البيوتُ عبارةً عن ملاجئ، أقلُّ بيتٍ يضمُّ بين جدرانِه ثلاثين فرداً على الأقل. في أحدِ هذهِ البيوت، حدثَ أمرٌ خطيرٌ ومرعبٌ، فقد قُصفَ المنزلُ الذي يتكون من ثلاثةِ طوابق، وكان تحتَ هذا المنزلِ الكثيرُ من النازحين الذين احتموا به في انتظارِ مَنْ يخلّصُهم من هذا الجحيم. كان محمدٌ في طريقِه إلى ذلك المنزلِ؛ كي يأخذَ أمَهُ، وباقي العائلةِ إلى مركزِ الإيواءِ على عربةِ الحصانِ التي يقودُها، فتمّ قصفُ المنزلِ قبلَ أن يصلَ إليهَ بعدةِ دقائق.
تبعثرَ المنزلُ في كلِّ الزوايا، وتناثرتْ أشلاءُ الناسِ في كلِّ اتجاه، هنا رأسٌ بلا جثة، هنا يدٌ تقبضُ على خبزة، هناكَ على الشجرةِ القريبةِ أحشاءٌ لشخصٍ ما، كان يختبأُ تحتَها من أنظارِ الطائرات، اكتسى المكانُ باللحمِ المحروقِ، والأشلاءِ المختلطة بالرّكامِ، والأحلامِ، والدموع. كانَ محمدٌ يشدُّ اللجامَ على فمِ الحصانِ كي يجريَ بسرعة، بعدما أصيبُ الحصانُ بحالةِ هستيريا من هولِ الحدثِ وكميةِ الغُبارِ التي أحدثها الانفجار.
وصلَ محمدٌ إلى مكانِ المنزلِ، وأخذ يدورُ ويبحثُ بينَ الجثثَ والأشلاءِ عن أمِهِ، شاهدها تنزفُ بجانبِ الرصيفِ، فصرخَ: أمي. لم تُجبْهُ الأمُّ، لكنها كانت على قيدِ الحياة. سارع إلى حملها هو وصديقٌ له كانَ قد أتى معَهُ ليساعدَه. حملوها ووضعوها على عربةِ الحصان ِهي وثمانية مصابين، وبسرعةٍ توجّها إلى المشفى. كانتْ هذه الرحلةُ عمليةً انتحاريةً بالنسبةِ لمحمدٍ وصديقِه، إذْ لم تكتفِ الطائراتُ بفعلتِها اللعينة، بل أخذتْ تقصفُ البيوتَ والشوارعَ بشكلٍ عشوائيٍّ ومكثفٍ.
أعلمُ الآنَ يا صديقي البعيدَ أنكَ تسألُ: ولماذا لم تتوجهْ طواقمُ الإسعافِ إلى مكانِ القصف؟ هذا لأنّ جيشَ الاحتلالِ الإسرائيليِّ قد منعَ دخولِ طواقمِ الإسعافِ إلى هذه المنطقة، ورفضَ كلَّ التدخلاتِ من قبلِ الصليبِ الأحمرِ واللجانِ الدوليةِ العاملةِ في غزة، وهدّدَهم بأنّ أيَّ أحدٍ يدخلُ إلى هذه المنطقةِ سوف يتمُّ قصفَهُ فوراً. وهذا ما حدث، فقد أتى «إسعافٌ واحدٌ» كي يحملَ الجثث، بعدما نقل محمدُ المصابين على عربةِ الحصان، وأخبرَهم بأنّ الجثثَ بالعشرات، وأن المصابين ينزفون على الطرقات، فما كان من الطائرةِ إلا أنْ قصفتِ الإسعافَ بمجردِ ما قامَ الطاقمُ المسعفُ بتحميلِ المصابين فيه، فقتلهم جميعاً بدمٍ بارد، وكأنه يصوبُ ناحيةَ خرافٍ قد أصيبتْ بوباءِ معدِ.. يا لهذا الحقدِ الصهيوني.
رغم كلّ هذه البشاعةِ والإسرافِ في القتل، ورغم ما حلّ بأمِه، عادَ محمدٌ مجازفاً بانهيارِ سقفِ السماءِ على رأسه، واستمر في نقلِ المصابين والجثثِ إلى المشفى بعدما قُدِّر للمُسعفين الذين جاءوا لحملِ الناس في سيارة الإسعاف أن تُحمل أشلائهم على عربةِ الحصان!
كان الأطباءُ والمسعفون، والناسُ المتجمهرون في المشفى ينظرون إلى محمدٍ على أنه مجنونٌ، أو صاحبُ قدراتٍ خارقة، فكيفَ له أن يفعلَ كلَّ هذا وهو لم يبلغْ بعدُ العشرين عاماً؟!
نفّذ محمدُ هذه العمليةَ ثلاثَ مرات، هو وصديقُه الذي رافقه طوالَ الوقت، وفي المرّة الثالثة، وعربةُ الحصانِ ممتلئةٌ بالجثثِ نُفذَ القصفُ المباشر على العربة من طائرةِ استطلاعِ إسرائيليةٍ، ممّا تسببَ في تناثرِ الجثثِ في كلّ مكان، أينما تولِّ وجهَك في ذاك الشارع تلقَ قتيلاً.
تسبب القصفُ بقتل الحصان على الفور وإصابةِ محمدٍ في يدهِ اليمنى، وقد تمكنَ بأعجوبةٍ من التخفي عن طائرة الاستطلاع، بالهربِ من بيتٍ إلى بيت، وتسللَ حتى وصلَ إلى المشفى. وما أنْ دخلَ بوابةَ المشفى حتى صُعق الناس الذين ظنوا أن محمدًا قد تمزقَ، وصارَ رمزاً للبطولةِ والفداء، إلا إنه بقي كي يرويَ ما حدث من جرائم، والتي ستظلُ شاهدةً على هذه الإلياذةِ الفلسطينية.
على الجانبِ الآخرِ، وقد حلَّ المساءُ والمدينةُ تغرقُ في الظلام، والقذائفِ، والدم، أكثرِ من اثنين وعشرين قتيلاً سقطوا في لحظة واحدة.
كانت المدينةُ ساعةَ وقوعِ المجزرةِ بلا سياراتِ بثٍّ خارجيِّ لنقلِ صورةِ الموتِ والدماءِ والدمار، كانتْ بلا مشفىً يعالجُ المصابين، كانتْ بلا ثلاجةٍ لحفظِ جثثِ الموتى. كُنا يا صديقي نضعُ الجثثَ في ثلاجاتٍ لحفظِ المنتجاتِ الزراعية، وثلاجاتٍ لحفظِ المُرطبات.
في حوالي الساعةِ الثانيةِ بعدَ منتصفِ الليل، حضرتْ سيارةُ إسعافٍ وفيها سبعةُ جثثٍ لأطفالٍ صغارٍ من عائلةٍ واحدةٍ لا يتجاوزُ أكبرُهم ثماني سنواتٍ. كانَ الممرضُ يعلمُ أنّهُ لا يوجدُ أيُّ مكانٍ لحفظِ الجثثِ فيه، فذهبَ إلى منزلٍ مجاورٍ للمشفى يطلبُ من أهلهِ ثلاجةَ البقالةِ الموجودةَ لديهم، التي تستخدمُ لحفظِ الآيسكريم. أحضرَها ووضعَ جثثَ الأطفالَ فيها، كانَ المشهدُ مضحكاً جداً، نموتُ ولا نستطيعُ الحفاظَ على قداسةِ الجثثِ وهيبتِها.
في مُنتصفِ الليلةِ نفسِها، حدثتْ جريمةٌ أخرى بشعةٌ في حيّ «تل السلطان» جنوبَ المدينة. جريمةٌ أودتْ بحياةِ أربعةٍ وعشرين شخصاً من المواطنين النازحين عن بيوتهم من المناطقِ الشرقية للمدينة، لا حولَ لهم ولا قوة، عائلاتٌ هربتْ بأطفالها من الموتِ شرقاً فلاحقَهم الموتُ غرباً، ليقولَ لهم جئتُكم بالموتِ في كلّ مكان، لا مهربَ من حقدي.. وبعدَ ذلك قالَ الاحتلالُ إنّ قصفَ المنزلِ كانَ بالخطأ؟ فقطْ دونَ الاعتذارِ حتى عنْ خطأه.
يا صديقي البعيد، ما زالت الحرب مستمرة، وما رويتُه لك كان الجزءَ اليسيرَ من الذي احتفظت به الذاكرةُ، والقدرةُ، فهناكَ من المَشاهدِ ما أتحفظُ عليها حتى لا أصيبك بالغثيانِ وأنت تقرأُ ما تيسرَ من جريمةٍ لنْ تُمحى من ذاكرةِ أهلِ المدينةِ حتى قيام الساعة.
ملاحظة: بعد مرور سبع سنوات على المجزرة، رفح إلى الآن بلا مشفى .. والحرب مستمرة.