بعد فضيحة مقتل الناشط السياسي نزار بنات على يد قوات الامن الفلسطينية , وارتفاع وتيرة النقد للسلطة الفلسطينية , ومن قبلها كانت أزمة اللقاحات التي اشارت الى وجود شبهات فساد في التعامل مع هذه اللقاحات, ومن قبلها كان الردود الغاضبة على السلطة بسبب تأجيل الانتخابات التشريعية , كل هذه المواقف السلبية للسلطة ولدت حالة من الغضب والاحباط تجاهها, وافردت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة واسعة للهجوم على السلطة ورموزها.
والذي زاد الامور تعقيدا هو ردود السلطة على هذه الجولات الثلاث من المواجهة مع الشعب الفلسطيني والتي سادها الكثير من التخبط والارباك , والتي انعكست بشكل اكبر في قمع المتظاهرين في مدن الضفة الغربية., وهو الذي اثار موجة سخط عارمة في الاوساط المحلية والدولية, لدرجة ان الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي اصدرت بيانات تندد بسلوك السلطة وتدعوها الى احترام الحريات العامة, وهي من الحالات النادرة التي يتخذ فيها المجتمع الدولي موقفا ناقدا للسلطة وسلوكها السياسي.
هذا الامر ليس جديدا !! فالسلطة تعاني منذ فترة طويلة من تردي شعبيتها في الشارع الفلسطيني لاسباب كثيرة , أولها فشل المسار السياسي الذي تقوده وتصر عليه رغم القناعات العقلية والميدانية التي تؤكد بقوة ان هذا المسار القائم على اتفاقات اوسلو وصل الى طريق مسدود ولا توجد أي فرصة لنجاحه, خاصة في ظل وجود حكومة يمينة متطرفة تمسك بمقاليد الحكم في اسرائيل. هذا اضافة الى الية تعامل السلطة مع الازمات القائمة في الضفة الغربية, خاصة في مجال الحريات وقمع المعارضين وفض المظاهرات بالقوة. هذه السلوكيات قادت الى انتشار حدة الانتقاد للسلطة بشكل علني, حتى من بين ابناء حركة فتح التي تعتبر العمود الفقري للسلطة.
أحيانا تشعر ان السلطة الفلسطينية لم تعد الجسم القوي والمؤثر الذي يسيطر على مقاليد الشارع الفلسطيني, بل ولم تعد تلك المرجعية التي تمثل احلام الفلسطينيين في العيش بكرامة وسلام , بل ما يجري هو العكس تماما , اذ تدل الكثير من استطلاعات الرأي التي نشرت في الاونة الاخيرة الى تدهور مكانة السلطة في الاوساط الشعبية, وبالاخص رئيسها ابو مازن.
وقد برزت بعض الظواهر الملفتة التي اشارت الى تراجع قوة السلطة ومكانتها, ومن بينها الانتقادات الكبيرة التي وجهها قيادات فتحاوية بارزة الى أداء السلطة , ومن بين هؤلاء القائد الفتحاوي مروان البرغوثي الذي عبر في اكثر من مناسبة عن انتقاده الشديد لاداء السلطة وسلوكها في الضفة الغربية, وكذلك فشلها في تحقيق أي انجاز سياسي طوال ربع قرن , ثم انسحاب عضو اللجنة المركزية ناصر القدوة بعد قراره خوض الانتخابات في قائمة منفصلة عن القائمة الرسمية لحركة فتح, تلاه بعد ذلك بعض الاستقالات لاقاليم حركة فتح في الضفة الغربية وقطاع غزة والتي عبر بعض مسئوليها عن غضبه بسبب عدم تعامل السلطة بالشكل المناسب مع المجريات السياسية او التعاطي مع مشكلات ابناء فتح في قطاع غزة.
ان السلطة الفلسطينية لم تقم للان باي مراجعة حقيقية لادائها السياسي, ولا يظهر في الافق ما يشير الى نيتها احداث تغيير جوهري في سلوكها السياسي, رغم كل ما صدر عن اجتماعاتها في المجلس المركزي والوطني, والذي دعا الى اعادة النظر في التعاطي مع اسرائيل والاتفاقيات المبرمة معها, والى وقف التنسيق الامني والى سحب الاعتراف باسرائيل, غير ان كل ذلك لم يجد طريقه الى التطبيق العملي بدون ابداء اية اسباب سوى انها ترجمة لحالة الهروب الى الامام التي تمارسها السلطة بشكل دائم. وواضح ان الرئيس ابو مازن الذي تجاوز عمره ال 85 عاما يمسك بقوة بتلابيب القرار السلطوي ويرفض اجراء أي اصلاحات او تغييرات نوعية.
المعروف عن الرئيس ابو مازن أنه يمارس نوعا من الدكتاتورية في علاقته بقيادات حركة فتح او السلطة, ويرفض السماح لهم بابداء مواقف معارضة لسياساته, بل انه يذهب ابعد من ذلك حينما يحول هذا الخلاف السياسي الى خلاف شخصي !! هنالك الكثير من القيادات الفتحاوية التي اثرت الابتعاد عن ابو مازن وعدم الاحتكاك به او الدخول في صدام معه, حتى القيادات الفصائلية المقربة منه والمنخرطة في اطار منظمة التحرير بدأت في رفع الصوت ضد السياسات التي يتبعها ابو مازن, خاصة الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحزب الشعب.
وعلى ما يبدو فان الرئيس ابو مازن يفضل ان يعيش في اجوائه الخاصة بعيدا عن كل ما يدور في الشارع او يقال في وسائل الاعلام, ولا يزال يعتقد انه يملك ورقة الشرعية الدولية التي تعترف به وتمنحه تفوقا على أي قيادات في الساحة الفلسطينية, كما انه لا يزال يتوهم انها الورقة الرابحة التي يرفعها في وجه اجراءات الاحتلال وتنصله من الاتفاقات السياسية.
للاسف ان الرئيس ابو مازن حشر السلطة وحركة فتح- بل والقضية الوطنية برمتها- في نفق طويل ومسار ضيق ومنعها من الخروج عنه ولم يمنحها ايا من الخيارات المتاحة التي تمكنها من الخروج من هذه الشرنقة , ومن هنا استغلت اسرائيل هذه الفرصة كي تسرح في اراضي الضفة الغربية بدون رادع, من سرقة للاراضي وبناء المستوطنات واعتقال الفلسطينيين ونصب الحواجز وممارسة الاغتيالات بشكل فج, فضلا عن العربدة التي يقوم بها المستوطنون ضد مواطني الضفة الغربية وممتلكاتهم.
ان السلطة الفلسطينية أظهرت عجزا كبيرا في مواجهة الاجراءات الاسرائيلية ولم تقم باي اعمال تعكس رغبتها في تحدي هذه الاجراءات او تعطيلها او عرقلتها , واكتفت باصدار البيانات او التهديد بالذهاب الى الجنائية الدولية لتجريم اسرائيل وجرها الى باحات المحاكم.
أما قصة السلطة الفلسطينية مع قطاع فهي قصة أخرى, يشوبها الكثير من التضييق والضغط والمحاصرة , مما خلق بونا كبيرا بين السلطة وبين قطاع غزة, حتى ان شعبية الرئيس ابو مازن في قطاع غزة وصلت الى درجة من التدهور لم يسبق لها مثيل.
ان هذه الحقائق تفرض نفسها وتطرح الكثير من الاسئلة حول مستقبل السلطة الفلسطينية ودورها في ادارة ملف الحياة اليومية للفلسطينيين وفي قدرتها على مواجهة التحديات ومعالجة الاشكالات الكبيرة التي تقف حجرة عثرة في وجه تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال.
هنالك الاسئلة الكثيرة والمعقدة التي تطرح حول السلطة ذاتها وحول ما اذا كانت تمثل رافعة للمشروع الوطني التحرري ام انها تحولت الى عقبة كبيرة وعبئا على كاهل القضية الفلسطينية.
وهذا ما دفع الكثير من السياسيين والمحللين الى طرح بعض من المخارج والحلول لتجاوز الازمة الوطنية الكبرى والمتمثلة في فشل المسار السياسي وفي استمرار الانقسام, ومن بينها الدعوة الى وجود قيادة وطنية مؤقتة او جبهة وطنية للانقاذ , وبعضهم دعا السلطة الى ضرورة التخلي عن مسارها السياسي , وهناك من رأى ان اصلاح منظمة التحرير باعتبارها البيت الذي يسع الشعب الفلسطيني بمختلف فصائله وقواه, يمكن ان يشكل مدخلا صحيحا لاعادة ترتيب البيت الفلسطيني, غير ان السلطة ليست على استعداد ان تتخلى عن برنامج المنظمة الذي يقوم على اتفاقات اوسلو والاعتراف بإسرائيل وهو ما ترفضه غالبية القوى السياسية.
ان السلطة الفلسطينية تعيش في واقع مأساوي لم يسبق له مثيل, وهذا بلا شك ينعكس على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ويجعل الفلسطينيين يراوحون مكانهم دون أدنى تقدم , بل ويجريء دولة الاحتلال على تصعيد اجراءاتها العدوانية في الاراضي الفلسطينية دون رادع , كما انه يسهل فرصة ضعيفي القلوب من الانظمة العربية على توطيد علاقتها بالاحتلال واعادة ملف القضية الفلسطينية الى الادراج!!
هناك حاجة ملحة الى عمل تغيير نوعي وجوهري في الحالة الوطنية, وهذا التغيير النوعي يقوم على ضرورة ايجاد قيادة وطنية شجاعة وقادرة على تحمل مسئولياتها اضافة الى تبني رؤية استراتيجية تعزز من القدرة على تحقيق انجازات وطنية في مواجهة الاحتلال.
ان الواقع الفلسطيني الحالي لا يملك الكثير من الخيارات, ولا يمكن بحال تحقيق انجازات وطنية مالم يخرج عن النمط التقليدي القائم , وما لم يملك الفلسطينيون الجرأة والشجاعة لتغيير نمط حياتهم وصراعهم ضد الاحتلال.
هنالك الكثير من عوامل واوراق القوة لدى الفلسطينيين التي تؤهلهم لاعادة قضيتهم الوطنية الى مسارها ومركزها الصحيح, لكن هذا لا يتأتى الا بوجود قيادة على قدر المسئولية, وهو ما يعتبر التحدي الاكبر الذي يواجه الفلسطينيين عموما , خاصة في المرحلة الراهنة.