شارع واحد مناهض.. خير لكم من شارعين بمشروعين

اعتصامات مناهضة
اعتصامات مناهضة

لا يوجد في فلسطين ثقافة المعارضة السياسية أو ثقافة الرأي المخالف، هذه هي الثقافة التي سادت منذ نشوء منظمة التحرير الفلسطينية ولغاية اليوم، اعتادت على اتخاذ القرار لكن لا معارضة لقرارها، يجوز الاختلاف معه دائر اروقة المنظمة لكن لا يجوز معارضته من الخارج، واي نهج مخالف هو تمرد وخروج عن الصف الوطني، ويتم مواجهته بالعنف.

هذه الثقافة تسربت الى السلطة الفلسطينية، وبات محظوراً أن يكون هناك نهج مخالف لنهجها، هذا جعلها غير قادرة على التعامل مع الحركات الاسلامية التي تعمل في الساحة الفلسطينية، وجعلتها نقيض لها، لم تحاول ان تصل معها الى برنامج مشترك، او ان تطور ثقافة للمنظمة لتصبح قادرة على احتواء نهجين وبرنامجين مختلفين او الخيار بينمهما ديمقراطيا، فقالب المنظمة يستوعب فقط من يقبل برنامجها وعلى مقاس شروط رئاستها، وعجزت عن احتواء البرنامج الآخر الذي أخذ ينموا ويكبر لا ليصبح نداً بل اصبح يخشى ان يبتلع المنظمة وبرنامجها معاً.

الحالة تتكرر الآن، ولكن بلاعبين جدد، بقيت منظمة التحرير الفلسطينية دون اية انتخابات حقيقية منذ أن أنشأت ولغاية اليوم، وانشأت في عام 1993 السلطة الفلسطينية، التي صممت على هياكل مبنية على فكرة الانتخاب لكن لم يتم تكريس مبدأ الانتخاب، المحاولة الثالثة للإنتخابات جرت بعد ستة عشرة عاماً واجهضت في اللحظة الأخيرة حيث تم الغاؤها بطريقة مهيمة للآخرين، بعقلية المالك الحصري للمشروع الوطني، بل قدم الغاؤها بالنصر الكبير على اعداء المشروع الوطني، اي على غالبية الشعب الفلسطيني.

الغاء الانتخابات وكما قلت من قبل هو بمثابة الكارثة التي ستحل بالنظام السياسي، الجمهور الفلسطيني بحاجة الى تغيير في النظام السياسي على فكرة التآلف بين القوى المنتخبة وليس الانقلاب على احدها، وهو بحاجة الى معارضة برلمانية وشعبية قوية.

وهذا ماحصل بعد الغائها (الانتخابات)، ثقة الجمهور انهارت بالنظام السياسي، اندلعت حرب في غزة شدت قلوب الفلسطنيين اليها بعيداً عن السلطة، فضائح عديده طالت السلطة مثل لقاحات فايزر، مقتل المرشح البرلماني نزار بنات بطريقة هزت مشاعر الوجدان الفلسطيني، وفشلت السلطة واجهزتها في المحاسبة في كل هذه الجرائم، واختبأت وراء لجان تحقيق، في اعتراف منها أن اجهزة الدولة مترهلة وغير قادرة على القيام بمهامها، هذا اضافة الى العجرفة التي سادت في التعامل مع هذه القضايا.

الانتخابات التي لم تكتمل لكنها ولدت قوى سياسية جديده، لها جمهور وبرامج مختلفة عن برامج الاحزاب التقليدية، 29 قائمة انتخابية جديده ولدت جميعها من خاصرة منظمة التحرير الفلسطينية، كانت اشبه بالجدار الحامي للمنظمة، كانت ستعيد ثقة الجمهور بالسلطة والمنظمة وتقويها، لكن المتنفذون في السلطة عادوها، ونكلوا بعدد من اعضائها كان أبرزه ما جرى مع المرحوم نزار بنات.

قيادة السلطة الفلسطينية لا تقرأ السياسة ولا علم النفس جيداً ولا حتى القانون، اعتبرت الدعم الذي تلقته من الولايات المتحده بعد الغاء الانتخابات وحرب غزة يؤهلها لارتكاب انتهاكات جسيمة، اعتقدت ان بإمكانها تطويع المخالفين، ردة فعلها كانت اشد مما اعتادت على فعله، كان اشدها ترويعاً حادث مقتل نزار بنات، كل النشطاء والقوائم الانتخابية والقوى الصغيرة المتناثره والمتناقضة والتي لم تكن تجتمع معاً من قبل حتى حين الغيت الانتخابات قرأت الرسالة جيداً، فتكاتفت على الفور بحالة تضامن عضوي للدفاع عن النفس مبني على غريزة البقاءتصنف بانها من اشد حالات التضامن مقارنة بالتضامن المبني على المصالح والمنافع التي تميز طبقة الحكم.

السلطة شعرت انها ضعيفة امام حالة الغضب والتضامن التي سادت، انسحبت للخلف خطوة صغيرة، وحاولت ان تخيف المتضامين بقوة خطر الجمهور، زدت بالعسكر بلباس مدني، حاولت ان تخيف المتمردين عليها، وهذا زاد الخوف فعلاً لكنه زاد حالة التضامن بينهم.

حالة التضامن اقلقت فاعلي السلطة بدرجة اكبر، فوجدنا من يكتب "الشارع لنا"، وآخر يهدد "شارع مقابل شارع"، و اخر ينذر بأن "صبره اوشك على النفاذ"؛ إنها تحذيرات حقيقية مخيفة ومرعبة، لكنها لاقت رد فعل معاكس لنية مطلقيها، دفعت الجميع للتضامن في غريزة طبيعية للدفاع عن الحق بالبقاء، ورفعت مستوى الجرأة والمقاومة، وخلفت تصدعات وانهيارات في معسكر مطلقيها الذين لا يقبلون هكذا تصرفات.

كان يمكن ان تستمر الاحداث لبعض الوقت على قاعدة شارع مناهض للحكم، فالقاعدة الطبيعية ان يكون معارضة في أي نظام سياسي في العالم، وطبيعي أن يتم الاستجابة لمطالبها، لم تكن هذه الفئات انقلابية كما روج الاعلام الرسمي الممول من دافع الضرائب بل أثار غضب الناس وأقلقها، واطال بعمر الأحداث لا قصر فيها، فالمعركة اصبحت دفاع في سبيل البقاء بدل ان تكون ازمة قابلة للإدارة والتعامل معها.

"شارع مقابل شارع" او "الشارع لنا" وصفة انتحار شديدة المفعول للنظام السياسي، انها وصفة معركة من اجل السيطرة على شارع صغير يسمى شارع الارسال في مدينة رام الله، لا زال الاحتلال الاسرائيلي هو المسيطر عليه مادياً ومعنوياً، ماديا يمكن ان يداهمه في كل لحظة وحينها يختفي الأمن من الشارع، ومعنوياً ما زال اسمه بالوعي الجماعي " شارع الارسال" نسبة الى ابراج البث الاذاعي التي زرعت في عهدي الانتداب البريطاني والاحتلال، ولم ينجح المشروع الوطني المتمثل في السلطة بتغيير اسمه او اسماء رموز، رغم ان هذا الشارع يحتوي على اغلب مقرات السلطة ومؤسساتها بما في ذلك مقر الرئاسة، مقر منظمة التحرير الفلسطينية، مقرات الامن، المحكمة الدستورية وغيرها.

"شارع مقابل شارع" وصفة انتحار سياسي لان الحديث عن شارعين، يعني في النهاية مشروعين متناقضين على أحدهما ان يحل مكان الآخر.

مشروع جرب يقف على راسه قادة متقدمي في السن لم تسمع الاجيال الاخيرة التي ولدت منذ نصف قرن غير اسمائهم، ومشروع آخر لم يجرب يقف على راسه جيل شباب غالبيتهم فوق سن المراهقة بقليل. المشروع الول يرى بالسلطة الفلسطينية كما افرزتها اتفاقات اوسلو مشروعاً وطنياً شاهد على الارض نتائج اعماله، ومشروع آخر لديه نزعات مقاومة، ويؤمن بالتعددية والحرية ومقاومة الظلم والاحتلال وفقا للنموذج الذي ساد في الشارع ابان الحرب على غزة، يؤمن بالمحاسبة والمساءلة، وبالتالي ان صنف الصراع بين مشروعين لن ينحصر الصراع الا بسيطرة احد الفريقين على الشارع، فلا مجال لبقاء مشروعين في ذات الشارع، ونحن نعي ان خلف الشارع احتلال اسرائيلي وخصوم سياسيين يراقبون ما يحدث عن بعد، وهما الأقدر على حسم الأمور.

أما الخيار الثاني ان تسلك السلطة خياراً لم تعتاد عليه من قبل، نظام حكم يقابله معارضة قوية في ذات الشارع، نظام يحكم عمله قواعد حكم رشيد كمبدأي المحاسبة وتداول السلطة بالإنتخابات.

اعمال هذين المبدأين قد يدفع ثمنه افراد أخطأوا او ارتكبوا جرائم، لكنه يبقي النظام ويجعله صالحاً للعيش البشري، من يكون اليوم في الحكم قد يكون يوم غد في المعارضة، والعكس صحيح، وهذا هو جوهر لمشروع الوطني الذي يحلم كل فلسطيني. لذا انصحكم وبكل موضوعية " شارع واحد مناهض.. خير لكم من شارع مقابل شارع ، أي مشروع مقابل مشروع، فلا أحد يضمن من الخاسر في هذه المعادلة".

المصدر : خاص زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo