"واضربوهن"

ضرب النساء
ضرب النساء

هذه إحدى المفردات المثيرة للجدل في القرآن الكريم، فخصومه يرونها دليلاً على ذكورية القرآن، وقبوله لفكرة الضرب والاعتداء على المرأة جسدياً، ومحبو القرآن حيارى، فمنهم من ذهب للقول: إن الضرب الذي أباحه القرآن الكريم مشروط بأن يكون غير مبرح، كالضرب بالمسواك، وما يشبهه..! ومشروط أيضاً بتجنب الوجه والمناطق الحساسة، ومنهم أيضاً من ذهب ليبحث عن معان أخرى لمفردة الضرب، استناداً إلى ذكر القرآن لهذه المفردة في مواضع لا تعني البتة الاعتداء الجسدي، كقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ( ضَرَبُوا) فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" أو قوله تعالى: " وَإِذَا ( ضَرَبْتُمْ) فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا"، مع العلم أن هذه المفردة جاءت أيضاً بمعنى اللطم، أو الاعتداء الجسدي" وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ( يَضْرِبُونَ) وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ"

وفي الحالتين، سواء أولئك الذين قالوا بفكرة الضرب غير المبرح بالمسواك ونحوه، أو أولئك الذين بحثوا عن تفسير آخر للمفردة، فإنك لن تجد صعوبة في اكتشاف الشعور بمأزق دفعهم إلى البحث عن مخرج لهذه التي اعترفوا في دواخلهم بكونها معضلة، وضعتهم في موضع الدفاع، أو التبرير.

مبدئياً فإن المشكلة لا تكمن في عدم فهم المفردة في سياقها القرآني والتاريخي، إنما في حقيقة أن الضرب- بمعنى الاعتداء الجسدي- مسألة لا تزال من مقبولات الثقافة العربية، وربما الإسلامية بشكل عام، ليس للمرأة وحسب، إنما للأولاد، والتلاميذ، والمخطئين في أقبية التحقيق، وربما لمخالفي الطوابير من قِبل شرطة النظام، فنحن حقيقة أمة لا تستهجن الضرب، ولا ترى فيه منكراً يجب معاقبة فاعله، ومعظمنا مارسه بفخر في مواضع متعددة، وكان يجد إطراءً من المجتمع، فهو دلالة على الحزم، والانضباط، وكراهية الخطيئة..! فالأب الذي يضرب أولاده محق، لأنه يعلمهم الفضيلة..! والزوج الذي يضرب زوجته رجل شهم يتقن حكم زوجته..! ومثل هؤلاء المُدرّس في مدرسته، والمحقق، وشرطي النظام.

الضرب أكثر من مجرد ظاهرة في مجتمعنا، ومن الغباء محاولة إنكار ذلك، وخاصة ما يرتبط هنا بموضوع المقال" واضربوهن" بمعنى ضرب الرجل لزوجته، أو الأخ لأخته، ولقد دفعني للكتابة في هذا الموضوع حادثتا الوفاة التي وقعت في غزة مؤخراً، إحداها لزوجة على يد زوجها، والأخرى لفتاة على يد إخوتها، ومع تأكيدي أن حوادث قتل النساء نتيجة الضرب- على الأقل في مجتمعنا الغزّي- ليست ظاهرة على الحقيقة، إنما حوادث نادرة، قد تحدث في مجتمعات أخرى، لكن مبدأ الضرب غير محتوم العواقب هو بالفعل ظاهرة، أو سلوك لم يستهجنه المجتمع بعد بالمعنى الحقيقي للاستهجان، خاصة للزوجات، والتي تُضطر غالباً للتسليم بواقع الضرب، كونها الحلقة الأضعف، والتي لن يمنحها المجتمع حق البحث عن شريك حياة بإرادتها، كما يحدث مع الرجل، فالبنت، والمطلقة على وجه التحديد لن تفعل سوى أن تجلس منتظرة خاطباً يرسل مجسات الفحص الأولية التي تزن المخطوبة، وتتفحصها كما تتفحص أي شاة تريد شراءها من سوق الحلال، ما يعني أن المرأة التي تغامر بالطلاق رفضاً لمبدأ الضرب ستنتقل إلى حلقة أخرى من حلقات الانتظار المهين التي يفرضها واقع، وطريقة الخطبة، والزواج في مجتمعنا، وستكون أقل جودة مما كانت عليه قبل الزواج..! ما يدفعها لتوقع زيجات أقل جودة أيضاً، أما زوجها الفحل فيرسل مجساته يميناً، ويساراً، وفي كل الاتجاهات بحرية مشروعة للبحث عن شاة جديدة يحدد هو مواصفاتها..!

واقع مزري كهذا يدفع المرأة لتقبل إهانة الضرب، بل ويدفع الآباء لحث بناتهم على عدم جعل الضرب سبباً للطلاق، ومن المؤكد أن واقعاً كهذا لا يجرم الضرب مجتمعياً لا بد وأن يتطور بعضه إلى حد القتل، وحينما تقع الواقعة ننهض جميعاً لمحاكمة النتائج، أما الأسباب الحقيقية فلا نجرؤ على طرق أبوابها.

المؤسف أن بعض هذا السلوك الهمجي يزعم الاستناد إلى النص القرآني" وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ( وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ) فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًاً" ومن هنا جاء الجدل حول مفردة الضرب، إن كانت تعني الاعتداء الجسدي،حتى لو بالمسواك ونحوه، أو أن للمفردة معان أخرى غير الاعتداء الجسدي.

وبرأيي: فإن للفكرة القرآنية وجهاً آخراً يمكنه ببساطة تسهيل فهمنا، وتجاوزنا لهذه المعضلة.

القرآن الكريم لم يكن يتنزل في الفراغ، ولا على أناس ليسوا موجودين على الحقيقة في دنيا الناس، وفي شقه التشريعي تحديداً، وعلى وجهه الأخص المرتبط بالشق المتحرك في الحياة الإنسانية، لم يكن يتجاهل معطيات لحظة النزول، فالقرآن مثلاً تحدث عن العبيد، والإماء، وملك اليمين، والجزية، وفي كل ذلك كان ينطلق من معطيات ومعارف تلك اللحظة ليفتح وجهة جديدة تتحرك دائماً للأمام، وتواكب معارف العصور اللاحقة، دون جعل أحكام لحظة زمنية بكل وسائلها، وأدواتها عابرة للمكان، والزمان.

نعم تحدث القرآن الكريم عن العبيد، والإماء، لكن أي منصف سيقر أن وجهة القرآن الكريم كانت ذاهبة في اتجاه التخلص من هذه الظاهرة إلى الأبد، وتحدث عن الجزية بوصفها سلوكاً متبعاً في حينه، ليس بوصفها قانوناً عابراً للزمان والمكان، وتحدث عن المرأة في مجتمع بدائي صحراوي كانت الزعامة المطلقة فيه للرجل، لكنه أسس لمبدأ المساواة الإنسانية، في الخلق، والحقوق، والوجبات، والمصير الأخروي، وجعلها سكن الرجل، ونصفه، ونزع عنها تهمة إغوائه في الجنة، وفي كل ذلك يمكنك أن تكتشف وجهة القرآن الكريم التي تريد أن تنتقل بالمرأة من مجرد تابع يملكه الرجل، إلى شريك على قدم المساواة مع الرجل.

إن كانت المسألة كذلك- وهي برأيي كذلك- فلسنا مضطرين للبحث عن تفسير القدماء لمعني" واضربوهن" ولا حتى البحث عن تفسير آخر للمفردة- وإن كان ذلك مما يحتمله القرآن الكريم، كونه استخدم لغة مرنة قابلة للتمدد المكاني، والزماني، وفقاً لتطور معطيات، ومعارف العصور المتتالية- لكننا نستطيع أن نضع التفسير القديم في سياقه التاريخي، ونبني نحن على وجهة القرآن، ومقاصده، حكماً ينص دون مواربة على تجريم الاعتداء الجسدي على المرأة، ونبذه مجتمعياً، وجعله من أكثر الممنوعات، والمحرمات إثارة للاشمئزاز، حتى لو لم تشكو المرأة خوفاً على حياتها المملوكة للرجل.

وعلى المسألة أن تتجاوز حدود التجريم، إلى البحث عن وسائل آمنة لمستقبل المرأة لا يجعلها رهينة لمحبسها انتظاراً لفارس أحلام يحمل عصاً يمكنه استخدامها، وستضطر هي للخضوع لها، حتى لو تم سن قانون رسمي لحمايتها، طالما أن القانون لا يحمي مستقبلها، ويبقيها فريسة للانتظار الذي قد يطول، بينما يمنح المجرم الذي ضربها كل الحق في البحث عن شاة جديدة، أو دابة جديدة يعتليها متى شاء، ويضربها بعصاه متى شاء.

المصدر : خاص زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo