جميل عبد النبي يكتب لزوايا: الشريعة والمجتمع

الفكرة التي يدور حولها العنوان هنا تتمثل في دوران حركة التشريع مع حركة المجتمع، بمعني أن حكماً تشريعياً ما فيما لو أنزل على أمة مختلفة وبيئة مختلفة لكان له منطوق آخر مختلف عنه في بيئة أخرى.


ليس هناك خلاف- على الأقل نظرياً- فيما يتعلق بالتشريعات الدنيوية الصادرة عن المؤسسات الدنيوية، ومثلها تلك التي تستنبط من النصوص الدينية ظنية الدلالة، أو ترتكز على مصادر ثانوية في أصول الفقه، كالمصالح المرسلة والعرف وعمل أهل المدينة ومذهب الصحابي، على الرغم من أن هذه المصادر هي بالأساس دنيوية وما كان يجب تديين منتجاتها، وبالعموم فلقد أقر الفقهاء بتأثر الفتوى بتغير الزمان والمكان، حيث يكفي الإشارة هنا إلى وجود ما يمكن تسميته مذهبين للإمام الشافعي، الأول في مصر والثاني في العراق، وبينهما من الخلاف في الفتوى الكثير نظراً لتغير بيئة الفتوى.


الخلاف حول التشريعات التي نصت عليها المصادر الأصلية ( القرآن الكريم والسنة بدرجة أقل ) بنصوص قطعية الدلالة، لا تحتمل في تفسير مفرداتها أكثر من قول واحد، على سبيل المثال هنا " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ... " حيث الجلد والعدد مما لا يقبلان أكثر من تفسير!


اقرأ أيضاً:  “الأونروا”.. من تثبيت اللجوء حتى مخطط التصفية

السؤال: هل الأحكام القرآنية أو تلك التي تضمنتها السنة النبوية بصيغ قطعية الدلالة تاريخية مرتبطة بلحظة زمنية معينة، أم دائمة وعالمية لا يحدها الزمان ولا المكان؟


قبل الإجابة على هذا السؤال هناك الكثير لا بد وأن يقال.


أولاً: نحن نميز بين ذات النص وبين الحكم المترتب عليه، فالنص دائم وثابت ولا يمكن إلغاؤه من القرآن الكربم ولا إلغاء فعاليته، بخلاف الحكم المترتب عليه والذي لا يعتبر غاية في ذاته، وإنما وسيلة للوصول إلى غاية ومقصد يسعى النص لتحقيقه.


وهنا يمكنني التأكيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلغ أبداً النص الخاص بأخذ خمس الغنائم لبيت مال المسلمين، وتوزيع الأخماس الأربعة المتبقية على المقاتلين، وإنما التفت إلى تبدل الظرف الخاص بطبيعة القتال والمقاتلين والغنائم، حيث كان المقاتلون متطوعين ينهضون للقتال تاركين عوائلهم وأعمالهم ومصالحهم، ويتعرضون كذلك لأخطار الحرب، ليس دفاعا عن مصالحهم الخاصة، وإنما تحقيقا لمصلحة عامة، فجاء النص ليمنحهم مكافأة وجزاء دنيوياً لما قاموا به، كما أن هذا الحكم نفسه من العادات التي كانت سارية في المجتمع قبل الإسلام، أضف إلى أن الغنائم كانت بسيطة مقارنة بسواد العراق والشام، ومساحات الأرض الشاسعة التي فتحت في عهد عمر.


تغير حال المقاتلين من مقاتلين متطوعين، إلى ما يشبه الجيش النظامي الذي يتقاضى رواتباً وأعطيات ثابتة قاتل أو لم يقاتل، هزم أو انتصر، فامتنع عمر عن توزيع الأراضي المفتوحة على المقاتلين، وأبقاها في يد أهلها الأصليين وأعلنها وقفاً على المسلمين.


عمر إذن حقق مقصد النص - ولم يلغه - ودار معه وفقاً لمتغيرات الظرف.


الاستناد إلى فعل عمر هنا ليس بصفته مشرعاً، فالتشريع الديني خاص بالله وحده، وإنما لأن أحداً من الفقهاء التاريخيين والمعاصرين لم يعترض على فعل عمر، سوى ( الشيعة ) الذين نظن أن رأيهم له علاقة بموقفهم المسبق من عمر نفسه وليس بما قام به، هذا إضافة إلى أن أحداً لن يستطيع القول مثلاً: أن على الدول الحديثة أن توزع ما تغنمه من ( الطائرات والدبابات على المقاتلين ).


شئنا أم أبينا لا نستطيع الإصرار على استحالة تأثير الزمن على شكل الأحكام - حتى القرآنية - خاصة تلك المتعلقة بالجانب المتحرك في الحياة الإنسانية.


ثانياً: فكرة تاريخانية النصوص وإلغاء فعاليتها التي نرفضها رفضاً مطلقاً، ونرى فيها تعدياً على القرآن الكريم، تأتي في صلب فكرة النسخ التي قال بها معظم الفقهاء، وإلا فما هو النسخ؟! إنه إلغاء تام لفعالية نص بنص متأخر عنه في النزول لشبهة تضارب بينهما.


وطبعاً: نحن ننفي تماماً عن القرآن الكريم أي تضارب لا سمح الله، وندعي أن سبب هذه الفرية يعود إلى التعامل العضيني ( التقطيعي) مع النصوص على اعتبارها قطعاً متناثرة غير مرتبطة بمنهج كلي، يعالج المعطى اللحظي بأدوات تحقق الغاية الكلية وصولاً إلى الهدف والمقصد القرآني.


اقرا أيضاً: الاحتلال يستغل التوتر لفرض وقائع جديدة على الأرض ضد مصالح الفلسطينيين

ثم إن القائلين بالنسخ ليس لديهم أدلة قطعية تفيد أن النص كذا ألغى النص كذا، وإنما مجرد تقدير ظني - في حالة حسن الظن - وغايات أخرى ليست نزيهة دائماً، وإنما تساوقاً، مع رغبات سلطانية تدمن القتل والعدوان، وإن شئت فابحث بنفسك عن الآيات التي قالوا أن الآية 5 من سورة التوبة نسختها، ستصاب بالذهول وأنت تجد كل جمال القرآن ورحمته وإنسانيته يريدونه منسوخاً لاغياً بآية واحدة اقتطعوها من سياقها القرآني وطبيعة الظرف الذي عالجته!!!


الغريب أن القائلين بالنسخ الذي هو إلغاء كامل للنصوص يجمدون أمام فكرة أثر الزمن على مترتبات النص ( الحكم )، فتجدهم لا يجدون حرجاً في إلغاء مئات الآيات القرآنية، بينما يبالغون في اتهام المطالبين بدراسة ظروف الأحكام المترتبة على النصوص، مع بقاء النص في موقعه القرآني والإنساني فاعلاً متحركاً مستخدماً للمتاح الإنساني من الأدوات والوسائل، وكاني هنا بمن قتل الحسين ويسأل عن حكم قتل النملة!!


بقلم: جميل عبد النبي

مواضيع ذات صلة

atyaf logo