لأنني لم أمت في الحرب

القصف الإسرائيلي في غزة
القصف الإسرائيلي في غزة

كانت أيام صعبة ولهبها شديد جدًا، ذلك اللهب الذي تسبب بحريق بالغ في النفوس قبل البيوت، لذلك عندما خرج الناس إلى الشوارع بعد شهر صوم وعيد يقولون لبعضهم البعض: "حمد الله على السلامة" وليس "كل عام وأنت بخير" لقد بدَّلت الأيام الأحد عشر حياة الغزي من النقيض إلى النقيض.

عدوان مختلف، رافقه جملة حزينة نواسي فيها أنفسنا وسرعان ما نلحقها بلعنة مختفية خلف الشفاه "أجت في المال ولا في العيال".. هجم العدو هذه المرة على المال، فقصف الأبراج السكنية التي تحوي في معظمها شقق ومكاتب ومصالح تجارية يعمل فيها آلاف الأفراد، دمَّر عدة مصانع ومحال تجارية، ضرب في عصب المدينة - حي الرمال وحي تل الهوا - تلك الأماكن التي يحج إليها الناس من كل مطارح قطاع غزة للتنزه والتبضع والبحث عن فرصة عمل أو فرصة للنجاة.

الآن لا راحة في تلك الأماكن، فقد تبدّلت أشكالها، وسكن الدمار في أماكن الفرح، أنا لا أحب تلك الجملة - أجت في المال ولا في العيال - لأنني أعي تمامًا أن المال يعادل الروح، وفي حالة قطاع غزة المال قد جاء بعد طلوع الروح، فهذا الذي أسس شركته الصغيرة من القروض غير المسددة، وذلك الذي ملأ محله التجاري بالبضاعة كي يفتتح موسم العيد فتم قصفه، والآخرين الذين ابتاعوا شققهم السكنية بعد معاناة وديون وفقدوها بلمحة بصر، ويجلسون الآن في العراء أو في أماكن لا ترحب بعددهم وعاداتهم. 1800 شقة سكنية تم تدميرها كليًا في قطاع غزة، بالإضافة إلى تضرر 13 ألف منزل بأشكال متفاوتة حسب إحصائيات حكومية غير نهائية، إضافة إلى مئات المنازل والشقق السكنية التي لم يتم إعادة إعمارها منذ حرب 2014.. أرجوك عندما تقرأ كلمة "شقة سكنية" اترك لخيالك العنان وتخيل الأسر التي تركت كل شيء خلفها وخرجت بملابسها، عوضًا على من لم يسعفه الوقت ليخرج!

عندما خرجت أنا بعد وقف إطلاق النار أتفقد الشوارع والمباني والأصدقاء، وأنا الناجي من أربعة حروب وعدد كبير من أيام التصعيدات، لم أشعر بما شعرت به هذه المرّة، لقد وصلني شعور بأن المدينة مخنوقة، الناس فيها مغتربة الروح، هناك فئة كبيرة كانت تبتسم وهي تمشي، وأنا منهم، لكنها مجرد ابتسامات الناجي من الموت. في رحلتي القصيرة التقيت بعائلة صديقة نجت من انهيار منزلهم فوق رؤوسهم، بعد أن تم إخراجهم من تحت الأنقاض، كان شعورًا رهيبًا أن تلتقي بأشخاص كانوا قبل ساعات تحت الأنقاض، الآن وبعد مضي أكثر من أسبوع على وقف العدوان التقيت بتلك العائلة الصديقة مرّة أخرى في بيت سيء جدًا فشعرت أنهم تحولوا إلى أنقاض!

"لم ينجو من الحرب إلا من قضى فيها"

اقتباس من قصة كتبتها في كتابي غزة اليتيمة الذي يتحدث عن يوميات حرب 2014، لم أكن أتصور أن يكون حاضرًا أمامي الآن وأنا أكتب عن عدوان 2021.

في رد لـ "ستيفان دوجاريك" المتحدث باسم الامين العام للأمم المتحدة رداً على سؤال حول إذا ما زال الوضع هشا في قطاع غزة قال:" ليس ثمة ضمانات لأي شيء ..." مضحكة هي الإجابة، ومن متى كانت هناك ضمانات تحقن دم الفلسطيني، وتوقف تغول آلة الحرب الإسرائيلية عليه، ومحاصرة أهله بغرض إجراء التجارب العالمية لمعرفة أقسى قدرات الإنسان على التحمل!

ما يخيف الآن هو الاعتقاد بأن العدوان أو الحرب على قطاع غزة قد توقف، فلا صور للدماء ولا مجازر، ولا عائلات تُباد عن بكرة أبيها، لا أصوات للقنابل والصواريخ، ولا نساء تصرخ على أبنائها الذين يأنون تحت الركام، لا شيء من قرطاسية الحرب باقية الآن، لكن الأمر على عكس هذا تمامًا فما يعانيه الناس اليوم في غزة أكثر حُرقة ووجع من صور الأشلاء الممزقة والبيوت المُقطعة، والصواريخ التي تنهال على البيوت، فمن مات في الحرب كان هو الفائز الأول والأخير، فالوجع الآن لِمن تبقى على قيد الحياة كما نحن من بقينا ننتظر فتح المعابر وإعادة الإعمار، وسولار محطة الكهرباء، وسماع ما يقوله الساسة الذين تفتحت عيونهم على المال والأعمال.

ربما توقفت آلة الحرب عن القتل، لكن حروب كثيرة تدور الآن في غزة، لكنها حروب لا تستهوي الكاميرات والفضائيات وأهل الأخبار العاجلة، حرب مع الكهرباء، والماء المالحة، حرب البلديات في إصلاح عشرات الكيلو مترات من الشوارع المدمرة، وعملية إزالة الركام، حرب مع القلق والتوتر وقلة النوم، فربما هذه المرة التي يعاني فيها الناس من قلة النوم والقلق بشكلٍ كبير .. لا أعلم عن ماذا أخبركم بالضبط، هل أخبركم عن حديد أسِرّة المشافي التي تبكي من يعتليها من جرحى، أم عن الأنين الخارج من بطن الصور، أم عمن فقدوا النطق - لا مجاز هنا فلا أقصد من ماتوا، أقصد من فقدوا القدرة على الكلام وعلى السمع، من يهابون السير في الشوارع ورؤية السماء، هذا عالم آخر في غزة عالم المضطربين نفسيًا، أطفال، وشباب وشابات في عمر الزهور قد أصابهم الاضطراب النفسي مما شاهدوه أمامهم من فَقد أسرهم وأحبتهم وبيوتهم جراء عدوان غاشم وحقير.

أعلم أنني أثقل قلوبكم وأنني أُنغص عليكم يومكم بهذه الأسطوانة المشروخة التي أذكركم فيها بعد كل حرب، أنا لا أطلب شيئًا من أحد، لكني أكتب كي أرفض أن تصبح معاناتنا أمرًا عاديًا، لا أريد أن يلبس أهلي ثوب البطولة القاني، ويغيبوا بعدها في كشوفات المشافي ودفاتر النسيان، أنا أكتب الآن وأحيانًا أبكي، لأنني لم أمت في الحرب.

المصدر : خاص زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo