لم تشهد الجولات السابقة من المواجهة مع إسرائيل إجماعاً فلسطينياً على دعمها، والوقوف خلفهاـ رسمياً وشعبياًـ كما شهدته هذه المرة، برغم أنها جاءت في أوج لحظات المناكفة بين كبريات المكونات الفلسطينية، خاصة بعد قرار تأجيل الانتخابات، لكن، وبمجرد أن انطلقت أولى الرشقات الصاروخية، وكأن رياحاً ما هبت على مشاعر الفلسطينيين بكل مكوناتهم، حتى أولئك الذين لم تكن قناعاتهم مع المواجهات المفتوحة، لكن فجأة وضع الكل الفلسطيني كل تناقضاته الداخلية جانباً، والتفت فقط إلى النقيض الحقيقي، والعدو الحقيقي للكل الفلسطيني.
لا تخضع هذه التحولات للصدفة بالطبع، جزء منها يعود إلى طبيعة الشعوب، وربما تحديدا الشعب الفلسطيني، الذي تعود على وحدة الميدان ساعة مواجهة العدو الحقيقي، رغم ما تمزقه السياسة، لكن ليس هذا وحده هو سبب هذا الإجماع، وهذا التوحد الفلسطيني، وإن كان لي أن أتتبع بعض الأسباب الإضافية لهذا التكاتف الفلسطيني حول هذه الجولة فسأقول ما يلي.
اقرأ أيضاً: الخبير العسكري واصف عريقات لـ “زوايا”: المقاومة رسخت معادلة جديدة في معركة القدس
أولا.. الوجهة هذه المرة كانت القدس، لقد شاهد الفلسطينيون غطرسة إسرائيل، وإصرارها على تغيير الطبيعة الديمغرافية لمدينتهم المقدسة، ومن الواضح أن القدس في الوعي الفلسطيني لا تشبهها أي مدينة أخرى، لأسباب كثيرة دينية، وتاريخية، ووطنية، بل إنها ربما تمثل الهوية الفلسطينية ذاتها، ولقد صار واضحاً أن هذه المدينة تمثل شرف الفلسطينيين، وأنها تستحق منهم أي تضحية، مع العلم أنهم خاصة في قطاع غزة يعرفون معنى التضحية التي عليهم تقديمها في مواجهات مباشرة، فلقد خبروها لثلاث مرات سابقة، لكن هذه المرة الموضوع مرتبط بالقدس، وليس بقضايا كنا نعرف أننا يمكن الحصول عليها بوسائل أخرى، ومنها المصالحة، ومنح السلطة دوراً ما في إدارة غزة، أما وأن القدس هي عنوان هذه الجولة، فإن كل ما يعرفونه عن حجم التضحيات المطلوبة وضعوه جانباً، ولم يقفوا وحسب خلف المقاومة، بل إن لسان حالهم كاد يقول.. واصلوا، ونحن خلفكم، ولا تتوقفوا إلى أن تحققوا إنجازاً ما يتعلق بالقدس.
ثانياً.. بعد مرحلة ترامب لم يشعر الفلسطينيون بأي تراجع عن حالة التغول الإسرائيلي، ولا عن أي مما حاولت تلك المرحلة السوداء فرضه من وقائع جديدة على الأرض، وحتى الطريقة غير المنصفة التي وافق عليها الفلسطينيون في مرات سابقة للانتخابات في القدس رفضتها إسرائيل، ما أوصل الفلسطينيين إلى حالة من فقدان الثقة بالوسائل السلمية التي منحوها أكثر من ثلاثة عقود، وبدا وكأن كل المحاولات قد اصطدمت بحائط فولاذي، لم تعد الوسائل السلمية وحدها قادرة على اختراقه، مما جعل المؤمنين بالوسائل السلمية ذاتهم يشعرون بالحاجة إلى كي وعي إسرائيل لإقناعها، وإقناع العالم من خلفها أن الفلسطينيين مصرون على استعادة ولو الحد الأدنى من حقوقهم التي كانوا وافقوا عليها مرغمين، لكن حتى هذه الحقوق المتواضعة لا تقبل بها إسرائيل، ولا تبدي أي استعداد للتعاطي مع الجهود السلمية، ولنا أن نذكٌر بأن أهم دعاة السلمية في العالم كانوا يرونها بلا فائدة إن فقدوا أي أمل في ضمائر خصومهم، فصارت المسألة تتجاوز حدود الرهان على ما تبقى من ضمير الخصم، إنما كي وعيه لإقناعه أن مظلوميه لن يتنازلوا عن حقوقهم، وهذا بالمناسبة ما صارت بعض الأصوات من داخل إسرائيل تعترف به.
ثالثاً.. شعر الفلسطينيون أن القضية الفلسطينية لم تعد أولوية، ليس فقط لدى قوى العالم النافذة، إنما لبعض بني جلدتهم الذين هرولوا في انزلاق خطير نحو التطبيع مع إسرائيل، حتى قبل أن تلتزم إسرائيل بمنح الفلسطينيين الحد الأدنى الذي وافقوا عليه مرغمين، وأقرته ما تعرف بالمبادرة العربية، لقد شعر الفلسطينيون حقيقة أن قضيتهم في خطر شديد هذه المرة، وأن هناك حاجة لإعادة موضعة القضية الفلسطينية حيث يجب أن تكون.
اقرأ أيضا: وزير شؤون القدس فادي الهدمي: العاصمة على صفيح ساخن وسنوات الأسرلة والتهويد فشلت
لكل ما سبق، ولأسباب أخرى تتعلق برغبة أي شعب مظلوم معتدى عليه، ابتهج الفلسطينيون هذه المرة، وأعلنوا التفافهم حول المقاومة، ولقد زاد من بهجة الفلسطينيين ما أبدته المقاومة من قدرة ليس فقط على الصمود، إنما أيضاً على إيلام العدو، وإظهار عجزه، وتحديداً بعد كل جولة يصعد فيها من قصفه لغزة.
ستكون لهذه الجولة استنتاجاتها، وأظن أنها ستمثل لحظة لها ما بعدها في الوعي الفلسطيني، ولا أظن أن ما بعدها سيكون محكوماً بذات قواعد ما قبلها، لكن أيضاً فإن كل هذا مرهون بقدرة السياسيين على استثمار ما أنجزه العسكريون، وسيكون من المجحف لكل هذه التضحيات التي شارك فيها الكل الفلسطيني أن تذهب هدراً، أو أن يقتلها المنقسمون بانقسامهم.