قضية رواء، وجندي الضبط الميداني

الصحفية رواء
الصحفية رواء

أحسنت حماس إذ أعلنت رسمياً وعلى العلن حكمها بالحبس على جندي الضبط الميداني الذي قام بالاعتداء على الصحفية رواء مرشد، وللإنصاف فإننا لا نستطيع أن نزعم أن ما قام به المعتدي يمثل السياسة الحكومية الرسمية لحماس في حكمها لغزة، بل إن واقع غزة يشهد بأن غير المحجبات لا يتعرضن لأي مساءلة حكومية، أو اعتداء رسمي من طرف حكومة غزة، ولعل الصحفية ذاتها صاحبة القضية وهي غير محجبة تشهد بأن هذه هي المرة الأولى التي تعرضت فيها للاعتداء بسبب عدم ارتدائها للحجاب، وأن حكومة غزة لم تتجاهل شكواها، وأعلنت رسمياً بأنها حكمت بالحبس على المعتدي.

لا نريد للقصة إذن أن تأخذ طابعاً سياسياً، ولا أن تستغل كجزء من سياسة التراشق، لكننا لا نستطيع تجاهل الخلفية الثقافية التي دفعت جندي الضبط الميداني لأن يجد لنفسه مبرراً للاعتداء بالضرب على فتاة غير محجبة، مستخدماً- أثناء اعتدائه- ألفاظاً تدل على احتقاره لها، ليس لمجرد أنها تواجدت في المكان الخطأ، كما حاول بيان داخلية غزة القول، إنما أيضاً لطبيعة ثيابها كما أعلنت هي بوضوح، وعلى العلن، على صفحتها الخاصة على الفيس، وكما دونت ذلك في شكواها الرسمية.

من المعروف في مجتمعنا الفلسطيني أن للسيدات حرمة خاصة، أياً كانت أسباب هذه الحرمة، لكنها جزء من واقعنا، وليس من السهل أن يتورط رجل في الاعتداء على سيدة لأي سبب كان، وعندما يحدث ذلك، فإن آثاراً محرجة تترتب على هذا الاعتداء.

لكن هذه الحرمة الخاصة قد لا تعبر في كل جوانبها عن رقي مجتمعي، ربما العكس أحياناً، فحتى مفردة حرمة التي نطلقها على النساء أحياناً، تشير إلى وضع خاص للمرأة يجعلها وكأنها شيء يجب بقاؤه محرماً، أو مستوراً، وعلى الأقل فهو يخلق حالة من التمايز بينها وبين الرجل.

صحيح أن المرأة في المجتمع الفلسطيني ليست حبيسة البيت بالكامل، فهي تحصل على تعليمها على قدم المساواة- تقريباً- مع الرجل، خاصة في مراحل التعليم الأساسية، وتحصل على فرص عمل لا بأس بها، إلا في بعض المرافق، لكنها مع هذا لا ترقى إلى مستوى الرجل في معظم تفاصيلها.

المرأة عندنا لا تخرج من بيتها إلا إن منحها الرجل إذناً لذلك، ورغم أنه يمنحها غالباً، لكنها لا تقرر منفردة، ولا بد لها من إذن، مؤقت، أو مفتوح، لكنه مرتبط دائماً بموافقة الرجل، كما أنها لا ترتدي من الثياب إلا ما يوافق عليه الرجل، وفي معظم أحياء قطاع غزة لا يسمح لها ألا ترتدي الحجاب، وإن فعلت فهي محط أنظار المجتمع، كما أنها لا تملك حق المبادرة لاختيار شريك العمر، إنما تجلس منتظرة في بيتها حتى يأتيها من يرسل لها من يتفحصها، كأي شاة يمكن لك أن تشتريها من السوق.

ومن المستحيل طبعاً أن تجد فتيات يجلسن على قارعة الطرقات كالشباب، رغم أن بعضهن- وبنسبة قليلة جداً، وفي أماكن محصورة جداً- صرن يرتدن بعض الكافيهات على استحياء، بل إنك تفاجأ كثيراً بأن اسمها لا يذكر إلى جانب اسم عريسها في كروت الدعوة للأفراح، ويستبدل بحرف من اسمها، وكأن اسمها ذاته عورة..!

أمثلة كثيرة يمكن سوقها هنا للتدليل على أن المرأة في مجتمعنا لا تعامل معاملة الرجل، وهذا هو واقعنا على الحقيقة، بغض النظر عن موافقتنا، أو رفضنا لبعض تلك المظاهر، لكن هذا ما هو كائن، ومن الغباء أن ننكر ذلك، وأظن أن كثيراً من مهاجمي جندي الضبط الميداني لا يسمحون لبناتهم ألا يرتدين الحجاب، ومع ذلك هاجموه، واعتبروا ذلك جزءاً من ثقافة حماس.

لا أنكر أن لفصائل الإسلام السياسي، والجماعات الدينية دوراً كبيراً في غرس هذه الثقافة، ولربما لجماعة الإخوان تحديداً، ولما يُعرف بالحركات السلفية الدور الأكبر في خلق حالة التمايز بين الرجل والمرأة، وتحويل المرأة إلى حرمة، ينطبق عليها ما لا ينطبق على الرجل، بل إنني أتهمها بالمجمل بمحاولة تنميط المجتمع بنمطها الخاص، خاصة في اللباس، والمظهر الخارجي، لكنني أعترف بأن المسألة تجاوزت الآن حدود تلك الجماعات، وتحولت إلى ثقافة مجتمعية، يتم غرسها في الأجيال الناشئة منذ الطفولة، فتنشأ البنت على أنها لا تشبه الرجل، ليس فقط فيما فرضته البيلوجيا، إنما فيما فرضته الثقافة المجتمعية، ومثلها الولد يرى لنفسه حقوقاً لا يراها لأخته، أو حتى أمه التي أنجبته.

بوضوح:

أنا أؤمن إلى حد كبير بالحريات الفردية، وأؤمن في ذات الوقت بأهمية حشمة كل من الرجل والمرأة، وليس المرأة وحسب، لكني أؤمن أن أي حشمة غير نابعة من قناعة حقيقية، واختيار حر لا تعبر عن رقي أخلاقي، وستفرز تحت السطح نقيضها، وأؤمن أيضاً أن الحشمة لا تعني كل تلك المظاهر التي يبالغ المجتمع في فرضها، وهنا يقيناً- ليكن واضحاً-: فأنا لا أدعو إلى التفلت من كل عاداتنا، لكني لا أقبلها كلها على علاتها

لكن- مرة أخرى- اختزال قضية ذات عمق ثقافي بمجرد تسجيل ملاحظة على سلوك فردي ليس أكثر من رد فعل سطحي، وربما لا يعدو كونه رغبة في مناكفة جهة لا نتفق معها سياسياً، فنستغل كل حدث لمهاجمتها، ونقدها، بينما المسألة أعمق من ذلك بكثير، إن ما فعله جندي الضبط الميداني مع الصحفية رواء ينسجم إلى حد كبير مع طبيعة الثقافة المجتمعية التي صرنا نؤمن بها جميعاً، لكننا في الغالب لا نحب الاعتراف بما نخشى منه، وهو مستقر حتى النخاع في أعماق وعينا.

واهم من يظن أن الصمت عما نعرف عيوبه فيما نؤمن به يؤَمّن لنا السلامة، إن العكس هو الصحيح، إن عدم طرح قضايا الثقافة المجتمعية للحوار الجاد سيحولها إلى ذرائع لردات فعل متطرفة، قد لا نستطيع تحمل تبعاتها، وقد نكتفي معها بمحاولة الظهور وكأن الأمور على ما يرام، بينما نعرف أن مياهاً تتحرك تحت أقدامنا، وكل ما نتمناه ألا تظهر للسطح.

مع إدراكي أنني واهم أيضاً لو توقعت أنني سألقى استجابة حقيقية لفتح حوار كهذا، فنحن نحاور في ذات الله دون حرج، لكن كل الحرج يكمن في أي حديث عن واقع المرأة، إلا أنني لا أشك في أن تغيرات ما ستفرض نفسها على مجتمعاتنا، وكل ما أخشاه أن تتجاوز حدود قدرتنا على التحمل.

المصدر : خاص زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo