لا يجرؤ أي فلسطيني على رفض هذا الشعار، ليس خوفاً من أحد، أو جهة، إنما لأن للقدس موقعاً من الصراع لا يساويه أي موقع آخر، برغم أن جوهر القضية الفلسطينية لا يتعلق حصراً باحتلال القدس، فهناك قضايا كبرى مثل اللاجئين، وحق تقرير المصير، فنحن شعب طُرد من أرضه، وحتى اللحظة لم يُسمح له لا بالعودة، ولا بالتقرير في شئون نفسه، وربما يمكن اعتبار اللجوء هو الجوهر الحقيقي للقضية الفلسطينية، ومع ذلك تبدو القدس هي عنوان العناوين، ودرة تاج الفلسطينيين، ولن يوجد- لا الآن، ولا في المسقبل فلسطيني واحد يمكنه أن يقول: يمكن التنازل عن القدس.
وربما يمكننا القول: بأن هذه المكانة العظيمة للقدس هي من حسن حظ الفلسطينيين، فهي الضمان الحقيقي، والأبدي لأن يظل الشعور بفداحة الاحتلال، وضرورة التخلص منه حاضراً، ليس فقط في أعماق المشاعر الفلسطينية، إنما العربية، والإسلامية أيضاً، مهما بدت بعض المسلكيات العربية الأخيرة وكأنها خطوة في اتجاه التخلي عن القدس، أو التعايش شبه الطبيعي مع الاحتلال، إلا أن الحقيقة ستظل تقول: بأن القدس أكبر من مجرد قطعة من الأرض يمكن المساومة عليها، وأكبر من مجرد تاريخ يمكن له أن يتخذ مساراً جديداً لحركته، إنها جزء من الدين، والعقيدة، والكينونة الفلسطينية، والعربية، والإسلامية، والمسيحية أيضاً، وهي بموقعها هذا ستظل المحرك الحقيقي لإدامة الصراع، وإدامة الشعور بالمظلومبة الفلسطينية، ولن تكف عن دورها هذا إلا بعودتها إلى أهلها الفلسطينيين، كما كانت من قبل.
اقرأ أيضاً: الرجوب لـ”زوايا”: الانتخابات ستجرى في موعدها بما فيها القدس رغماً عن الاحتلال
هذا الموقع شديد التعقيد للقدس برز بشكل واضح خلال الحديث عن الانتخابات الفلسطينية، خاصة بعد خطوة الرئيس الأمريكي السابق ترامب، والذي اعترف بها كعاصمة موحدة لإسرائيل، حيث تفاقم شعور الفلسطينيين بالخوف على مستقبل المدينة المقدسة، وبالتالي فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل أن يقبل الفلسطينيون بأي إجراء جديد من شأنه أن يعزز خطوة ترامب، أو يبدو وكأنه قبول بالواقع الجديد الذي تسعى إليه إسرائيل.
شمنذ احتلال القدس عام 1967م منحت إسرائيل المقدسيين في شرقي القدس الهوية الزرقاء الإسرائيلية، لكنها لم تعترف بهم كمواطنين كاملي المواطنة، إنما منحتهم ما تسميه الإقامة الدائمة، حيث تسمح لهم بالمشاركة في انتخابات بلدية القدس، لكنها لا تسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية، ما يعني أنهم لسوا مواطنين كغيرهم، أو كإخوانهم في باقي الأراض الفلسطينية المحتلة عام 48م، ومن المعروف أن العالم- باستثناء أمريكيا مؤخراً- لا يزال يعتبر شرقي القدس جزءاً من الأراض المحتلة، ولا يعترف بكونها جزءاً من إسرائيل، وخلال المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي انطلقت بعد مؤتمر مدريد أواخر عام 1991م لم يتم التوصل إلى حل لقضية القدس، وبقيت واحدة من القضايا المؤجلة لمفاوضات الحل النهائي التي لم تُنجز بعد، لكن السلطة الفلسطينية أصرت خلال أول انتخابات لها أجرتها على الأراض الفلسطينية عام 1996 على أن يشارك سكان القدس الشرقية في الانتخابات، وتم الاتفاق في حينه على مشاركة جزء من المقدسيين عبر مراكز البريد الإسرائيلية، فيما تشارك البقية عبر مقرات انتخابية في البلدات المجاورة، التي تصر السلطة الفلسطينية على كونها جزءاً من القدس، وهذا ما حدث، ثم تكرر مرة أخرى في اتخابات عام 2006.
هذه المرة لم تجب إسرائيل على طلب السلطة الفلسطينية بخصوص مشاركة المقدسيين في الانتخابات المزمع إجراؤها في مايو 2021، ولا حتى وفقاً للآلية السابقة المتفق عليها، وهذا ما تعتبره السلطة الفلسطينية خطوة في اتجاه ترسيخ الواقع الجديد الذي تسعى إليه إسرائيل، خاصة بعد ما عُرف بصفقة القرن، واعتراف أمريكيا بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل.
السلطة من جهتها تنظر إلى أي إجراء جديد مهما بدا شكلياً على أنه فرض للأمر الواقع الجديد، وترى في مشاركة المقدسيين وفي مقرات داخل المدينة، على أنه رفض لصفقة القرن، واعتبار القدس بأهلها وأرضها جزءاً من السلطة الفلسطينية، أو جزءاً من الأراض الفلسطينية المتنازع عليها، وليس تلك التي لم تعد خاضعة للتفاوض، وصارت جزءاً مما يسمى إسرائيل، ومن غير المتوقع أن تقبل السلطة بأقل مما كان في الانتخابات السابقة، على الأقل لتؤكد عدم اعترافها بأي أثر للخطوات الأمريكية الأخيرة.
يأتي هذا التعطيل الإسرائيلي في ظل شكوك فلسطينية داخلية بجدية الحديث عن الانتخابات، وبجدية السلطة في إجراء الانتخابات، مما دفع بعض الأطراف الفلسطينية إلى التشكيك بالسلطة، واتهامها بالتذرع بالقدس للتهرب من الانتخابات، لكن الخطاب الرسمي، والمعلن للسلطة الفلسطينية لا يزال يؤكد على أن الانتخابات ستجري في موعدها، لكنها لن تجري بدون القدس.
اقرأ أيضاً: كحيل يكشف لـ”زوايا” تفاصيل إجراء الانتخابات في القدس (شاهد)
هذه المعادلة المعقدة لوضعية القدس، وللملابسات المحيطة بالانتخابات دفعت بعض الأطراف الفلسطينية للحديث عن ضرورة إبداع حلول لمشاركة المقدسيين، كالتصويت الالكتروني مثلاً، أو التصويت في مقرات السفارات، والممثليات الدولية الموجودة في القدس، لكن حتى هذه الاقتراحات تبدو في نظر الكثيرين على أنها تسليم بالفروضات الإسرائيلية المتعلقة بالقدس، وهي على العموم لا تحظى بموافقة الكل الفلسطيني، حيث لا يزال- وأظنه سيبقى- موقف السلطة الفلسطينية مصراً على أن الانتخابات يجب أن تتم داخل المدينة ذاتها، وأن يحظى أهلها بحق الترشح والانتخاب مثلهم مثل كل الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وهي لا تنظر إلى هذه المسألة على أنها مجرد مسألة رمزية، إنما جزء من الصراع على فرض السيادة ولو جزئيا على المدينة المقدسة.
من المؤكد أن الانتخابات الفلسطينية- وإن مثلت رغبة كل الفلسطينيين- جاءت استجابة لضغوط دولية متعددة، ومن المتوقع أن تستغل السلطة هذه الرغبة الدولية في فرض رؤيتها للانتخابات في القدس، أو على الأقل أن تقول للعالم: إن السلطة ذاهبة بجدية للانتخابات، لكن إسرائيل هي التي تعطلها.
أما داخلياً، فمن المتوقع أن تظل هذه القضية واحدة من القضايا الكثيرة التي تستخدمها بعض الأطراف الفلسطينية للتراشق الإعلامي، فمن يوافق على انتخابات بدون القدس سيبدو متهماً في نظر كل الفلسطينيين، ومن يصر على عدم إجراء الانتخابات بدون القدس سيبدو معطلاً متعمداً للعملية الديمقراطية المتعثرة أصلاً في فلسطين.
كمواطن فلسطيني لم يكف يوماً عن الدعوة للاحتكام للشعب، ولصناديق الاقتراع لا أستطيع التسليم بفكرة إلغاء الانتخابات، حتى لو اتفقت كل الأطراف الفلسطينية على حكومة وحدة وطنية تمثل كل ألوان الطيف الفلسطيني، لأنها بنظري ستُشكّل بعيداً عن رأي الشعب، واختياراته، لكني في نفس الوقت لا أقبل أبداً فكرة تجاهل القدس في أي انتخابات فلسطينية، ولا بأي إجراء جديد من شأنه أن يعزز الأطماع الإسرائيلية في المدينة، وتلك لعمري من أصعب المعادلات التي تبدو بلا حل، وبرأيي فإن واصلت إسرائيل رفضها، فإن الكل الفلسطيني ملزم على جعل القدس عنوان نضاله في المرحلة المقبلة، رفضاً لأي تغيير في مكانتها المقدسة يؤثر على كونها جزءاً من فلسطين، ومن أراض السلطة الفلسطينية، وإن استطعنا أن نطلب من الفلسطينيين المقدسيين بالتوجه إلى الانتخاب في مقرات يتم إقرارها في القدس بدون إذن إسرائيل، ولتأت إسرائيل لتمنعها أمام العالم، وعندها لكل حادث حديث.
لا لإلغاء الانتخابات، ولا لإجرائها بدون القدس.
بقلم : جميل عبد النبي