ماذا لو تأجلت الانتخابات التشريعية؟!

قد نصحو قريبًا على خبرٍ يقول بتأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وسوف يكون في صدر الخبر شعارًا كبيرًا يحمل اسم مدينة القدس، فالجميع يرى في القدس سببًا وجيهًا لتأجيل الانتخابات، لكنهم لم يفعلوا شيئًا مقابل تهويد المدينة وهدم مساكن أهلها، وإعلانها عاصمة للكيان المُحتل! القدس حجتهم دومًا، في الحرب حجتهم، وفي السلام حجتهم، وفي الخيبة حجتهم أيضًا، يتحججون بها ولم ينصروها إلا بالشعارات والكلام!


القصة هنا ليست في القدس، بل في غزة، أو بالأحرى في ما بقي لدى أهل غزة من أمل وقدرة على مصارعة الحياة غير الطبيعية، فبالرغم من سير إجراءات الانتخابات بمنتهى الدقة، وحسب الخطط والجداول الزمنية الموضوعة لها، إلا أن الاعتقاد السائد لدى جمهور عريض من الناس بأن الانتخابات لن تحصل، وقد صاحب هذا الاعتقاد حالة فتور وانهزام نفسي لدى أغلب الجماهير التي كانت متحمسة للانتخابات ورأت فيها نافذة صحيحة لتفريغ طاقاتها والبحث عن خلاصها بشكل سلمي ديمقراطي، وأصبحت تتناقش في توقع نمط وطريقة كتابة مرسوم تأجيل الانتخابات، بعدما كان الحراك سائدًا في توقع نتائج هذه الانتخابات وشكل الحياة السياسية القامة، وهنا التأجيل يعني الإلغاء، فكل مؤجل في هذه البلاد هو ملغى بالضرورة، ولا أظن أن هناك طاقة لدى الناس لرفض ومهاجمة موضوع التأجيل، لأن الرَّافض لسيناريو تأجيل الانتخابات سوف يكون محط اتهام باللاوطنية، وسوف يسوق عليه وطنيو الشعار كل آيات الغضب الثوري، فالقصة هنا محبوكة تمامًا: إنها القدس بقدسيتها.


وهنا نثبت موقفًأ واضحًا بأن تأجيل الانتخابات بسبب منعها في القدس من قبل الاحتلال، دون اتخاذ موقف استراتيجي من اتفاقية اوسلو لا يعتبر بطولة أبدًا، بل هروب إلى الأمام، وتحقيق للمثل القائل: "أجت منك يا جامع" والحق هو اجراء الانتخابات وليمنعها الاحتلال في القدس، ولتكن معركة السيادة "المعنوية" على الأرض، وليس بالارتهان إلى الإذن الإسرائيلي بإجرائها ومحاصرة الحياة الديمقراطية الفلسطينية نتيجة هذا الارتهان.

لقد عاش قطاع غزة في ظروف غاية في التعقيد طيلة عقد ونصف من الزمن، وجاءت فكرة التوافق بين حركتي فتح وحماس على إجراء الانتخابات كطوق نجاة لآلاف الشباب، من باب أن القادم سوف يكون أفضل على صعيد الحياة الديمقراطية التي سوف توفر نظام يعتمد ولو بحده الأدنى على تكافؤ الفرص، ويفتح الباب لخلق فرص عمل ووظائف وتنشيط حركة السياحة الداخلية والخارجية، وفتح المعابر بصورة دائمة من خلال وجود حكومة شرعية مسؤولة عن الأوضاع المعيشية للناس ولو بصورتها الشكلية، كل هذه آمال معلقة بإجراء الانتخابات، فهي بالنسبة لسكان قطاع غزة ليست مجرد إجراء عادي، بل أمل طال انتظاره، وذهب في مسيرة الانتظار هذه عشرات الشباب المنتحرين والمهجرين، والذي أدمنوا المخدرات، وغيرهم من الذين أصيبوا باضطرابات نفسية جعلتهم منبوذين داخل أسرهم ومجتمعاتهم الصغيرة.

في حلقة تلفزيونية اسرائيلية تفاخر المذيع بأن عدد المهاجرين من قطاع غزة تجاوز الثلاثين ألفًا ما بين عامي 2018 و 2020 بينهم 150 طبيب، بينما يشير بعض المختصين في غزة أن النسبة تزيد عن سبعين ألف ما بين عام 2014 وبدايات عام 2020، هذا دون أن تكلف الجهات الحكومية الحاكمة في غزة أو الضفة الغربية نفسها بإعلان أي نسبة لأعداد من هاجروا.


لقد بت على قناعة تامة أن هناك من يعمل على هجرة الشباب في قطاع غزة، ولو بطريقة المتآمر الغبي الذي يقيد نفسه داخل مفاهيم مصنوعة ومغلفة بكل ما يحب سماعه من شعارات.


فالتوافق على تأجيل الانتخابات هذه المرة تحت أي ذريعة كانت، هي حلقة في سلسلة مؤامرات طويلة هدفها ارباك المشهد الفلسطيني كله، وإدخاله في دوامة جديدة من الصراع العبثي الذي سوف ينعكس على الشباب من أصحاب الكفاءات الذين علقوا الآمال على حدوث التغيير في واقعهم السياسي والاجتماعي، تمامًا كما كان يحدث في جولات المصالحات الكثيرة التي كانت تعطي الأمل للناس وسرعان ما يتم إفشالها، فتحدث الصدمة بعدها ليُفتح الباب من جديد على موجة هجرة جماعية سوف تزيد عن الموجات السابقة بكثير بسبب انعدام الأمل تمامًا في حدوث أي تغيير في الواقع الفلسطيني نتيجة سيطرة (قوى الاستعمار الفلسطيني الجديدة) على الحياة السياسية في فلسطين، وتمترسها خلف مصالحها الحزبية التي تكتسبها جراء سيطرتها على موارد الشعب وقيامها بالدور المنوط بها تمامًا.


لن يقتصر الأمر على موضوع الهجرة الذي يبدو لأصاحب السلطة أنه شر خارجي بعيد لن يؤثر عليهم، بل الأمر يمتد إلى ما أبعد من ذلك في ضرب ما بقي من نسيج اجتماعي داخل القطاع، فسوف تزيد نسبة الجريمة والعنف ضد المرأة، وحالات التسول وتعاطي المخدرات، إضافة إلى عودة ظاهرة الانتحار إلى السطح مجددًا، كل ذلك سوف يكون له تبيعات خطيرة على الأرض، في ظل حالة الفراغ الكبيرة التي سوف تنتج عن تأجيل الانتخابات، فهي كما أسلفنا ليس انتخابات عادية في ظروف عادية، بل حالة أمل وحيد، في ظروف لا أمل فيها.


خاص زوايا

بقلم: محمد جودة

مواضيع ذات صلة

atyaf logo