الانتخابات الفلسطينية وخطاب الشيطنة

رسمياً لم تبدأ بعد الدعاية الانتخابية في فلسطين، أما عملياً فلقد بدأت بالفعل- حتى قبل أن يصدر الرئيس الفلسطيني مرسوم الانتخابات- بواسطة منتسبي ومؤيدي الأحزاب والفصائل المتنافسة، وربما على وجه الدقة أكثر بين منتسبي فتح وحماس تحديداً.


من المسلم به في الساحة الفلسطينية أن الانتخابات هذه المرة جاءت في لحظة استقطاب شديدة بين الطرفين، فلقد سبقها خمسة عشر عاماً من الانقسام، كانت العلاقة بين الطرفين قد تجاوزت حدوداً كثيرة لم يعتد عليها الشارع الفلسطيني، فالتخوين، والتكفير، والقمع المتبادل، كل ذلك أدى إلى حالة يمكن وصفها بدون تجميل بالعداء.


اقرأ أيضاً: محمود جودة يكتب لـ”زوايا”: قراصنة غزة..شخلل علشان تعدي!


هذه الحالة أحدثت شرخاً كبيراً في البنية السياسية، والاجتماعية تجاوزت بكثير حدود التباين الطبيعي الذي تعرفه كل المجتمعات، فمن المتفق عليه أن الناس ليسوا كلهم سواء في قراءة السياسة، ودائماً هناك زوايا متعددة تنظر من خلالها الأطراف المتنوعة للأحداث، ما ينتج بالضرورة تبايناً في الرؤى، وفي الحلول الممكنة للأزمات المتنوعة، لكن الطبيعي أن هذا التباين من شأنه أن يثري الحالة السياسية، أو ما يمكن تسميتها بالثقافة السياسية، إلا أنها في الشارع الفلسطيني ذهبت في اتجاه تناحر المختلفين، بدلاً من تعاونهم، أو استفادة كل منهم من الآخر.


ما أن اتفقت الأطراف المختلفة على الانتخابات حتى بدأت نتاجات السنوات السابقة تطفو على السطح بشكل أكثر وضوحاً من ذي قبل، وبدأ كل طرف يسعى لإظهار أسوأ ما في الطرف الآخر، بدلاً من تقديم أحسن ما لديه هو، في محاولة واضحة لصرف الناخبين عن الطرف الآخر، أكثر من دفعهم لاختيار طرف معين.


وبرأيي فإن لهذا السلوك أسبابه، حيث يعترف الكثيرون بأن الانتخابات السابقة التي أُجريت في مطلع عام 2006م كان التصويت فيها عقابياً، أكثر منه قناعة بالبديل الذي تم اختياره، حينها كانت حركة فتح وحدها تقريباً في السلطة، وكانت البدائل غير مُجَرّبة بعد، فتم تحميل فتح كل إخفاقات السلطة، وسلبياتها، وذهب الكثيرون إلى الصندوق رغبة في معاقبة فتح، أكثر منهم رغبة في اختيار حماس.


يحدث هذا في كل الديمقراطيات كما أظن، ولكن ليس بالحدة التي تبدو في ساحتنا الفلسطينية.


فمن المتوقع أن يستغل المتنافسون إخفاقات خصومهم السياسيين للطعن في قدرتهم على إدارة الدولة، لكن هذا لا يعفيهم من تقديم خططهم البديلة، والتي يبحث فيها المواطن عما يحقق مصالحه، لكن وحتى مع استغلال إخفاقات الخصوم فإن هذا الاستغلال للإخفاقات يظل مسقوفاً بما لا يساهم في توسيع حجم الفجوة بين المكونات الوطنية، هذا ناهيك عما لا يرسخ حالة العداء.


الملاحظ في دعايتنا الاستبقائية خلاف ذلك تماماً، لا أحد يتحدث عن الانجازات الحقيقية التي يمكنها إغراء المواطن بتكرار التجربة، إنما ينصب كل الجهد على إخفاقات الآخرين، وكما قلت قبل قليل، ليست المشكلة هنا، إنما في أن الخطاب الدعائي يتجاوز كل حدود الشراكة الوطنية ليذهب في اتجاهات خطرة على البنية والوحدة المجتمعية، كالتخوين مثلاً، بل والتكفير أحياناً، وربما غالباً، واللجوء إلى كل أشكال الشيطنة، التي لا تتوقف فقط عند اتهام الطبقة الحاكمة، أو المتنفذة، إنما تطال كل منتسبي الجهة المنافسة، مما يفاقم من حالة العداء، والانقسام المجتمعي في كل مستوياته.


اقرأ أيضاً: عن الانتخابات في القدس.. “وما نيل المطالب بالتمني”

يحاول أصحاب الخطاب التخويني إثارة مخاوف الناخبين من الجهات المستهدفة ليحصلوا على التصويت بالضد، بمعنى إبعاد الناخبين عن الجهة المنافسة، في محاولة لتكرار تجربة التصويت العقابي الذي حصل في 2006، دون الالتفات إلى ما يمكن أن يترتب على هذا الشكل الدعائي من آثار خطرة على تماسك النسيج الوطني الداخلي.



أكرر:


تسمح الديمقراطية بدعاية مضادة تستغل إخفاقات المنافسين، لكنها لا تسمح بخطاب الكراهية العدائي، الذي يخون الآخر، أو يكفره، وعليه فإنني شخصياً أدعو إلى تجريم هذا الخطاب الذي لا يميز بين الحق في نقد الآخر، وكشف عجزه، وبين ما من شأنه أن يمس وحدة المجتمع.


الانتخابات خلقت للتدافع السلمي على السلطة، يعترف الخاسر بحق الفائز في تولي إدارة الشئون العامة، ويعترف الفائز بحق الخاسر في الشراكة الوطنية، ليس بالضرورة كجزء من الإدارة، إنما كجزء من نسيج المجتمع، ومن ثم الحق في المعارضة، أما خطاب التخوين والشيطنة فهو خطاب إقصائي، لا ينظر إلى الآخر بوصفه شريك وطني، إنما كعدو يجب إقصاؤه، وإن أمكن شطبه بالكامل من المشهد السياسي، مرة واحدة، وإلى الأبد.


بقلم: جميل عبد النبي

مواضيع ذات صلة

atyaf logo