ننطلق فيما سنقوله أدناه من قاعدة: أن لا شيء في القرآن الكريم غير مقصود، فالله كما قال عن نفسه:" لا تأخذه سنة ولا نوم" أي أنه سبحانه ما قال شيئا إلا لأنه يريد قوله، وما أهمل شيئا إلا لأنه يريد إهماله.
وفقا لهذه القاعدة، التي هي جزء من عقيدتنا، سنعرض بعض النماذج القرآنية، التي تنطق بوضوح- لا يخفى ولا حتى على صغار الباحثين- بمنهج قرآني يكاد يتكرر في كل القضايا التي عرض لها القرآن الكريم، والتي يمكن التعبير عنها باختصار: أن القرآن الكريم كان يتجاهل عمدا صغار التفاصيل، التي لا يراها ذات أهمية في توجيه حركة الحياة الإنسانية، إلى حيث غايات القرآن الكبرى، بمعنى: أنه يريد لنا أن نمعن التفكير في الكليات، وأن لا نستنزف وقتا وجهدا فيما لا طائل منه، ولا فائدة مرجوة، وهذا بخلاف ما ذهب إليه العقل الديني فيما بعد، حينما راح يغرق في تفاصيل التفاصيل، وبالتأكيد لن تبقي هذه التفاصيل في العقل الذي استنزفته حيزا للكليات، التي هي جوهر وجهة القرآن الكريم.
في قصة أصحاب الكهف، وبطريقة ملفتة جدا، يعرج القرآن على الجدل حول عدد الفتية الذين أووا إلى الكهف، وبهذا الخصوص تحديدا يتحدث القرآن في 33 كلمة قرآنية حول هذا الجدل، تبدأ من قوله تعالى:" سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم" ... ثم يستمر حتى قوله تعالى:" ولا تستفت فيهم منهم أحدا" ، ومع حديثه طوال الثلاث وثلاثين كلمة، يمتنع القرآن عن تحديد العدد، وكان يمكنه- لو كان يرى في العدد قضية ذات شأن- أن يحسم القضية بكلمة واحدة، كأن يقول: ثلاثة، أو أخمسة، أو أي عدد يعلمه الله، وسوف ننتصر نحن كمسلمين للعدد الذي يحدده القرآن، وسوف لن تستطيع أي جهة نفي أو إثبات عكس ما قرره القرآن، في قضية تاريخية، هي فقط من علم الغيب، لكن القرآن لم يفعل، ويقينا ليس سهوا، ولا عن غير معرفة، إنما القضية هي بكل بساطة: ماذا يفيد العدد؟! إن كانت وجهة القرآن تتحدث عن العبرة المتمثلة في ثبات مجموعة من الفتية على إيمانهم، ورفضهم الاستجابة إلى التهديدات السلطانية التي عبر عنها القرآن في قوله:" إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذن أبدا".
اقرأ في زوايا: جديد الاحتلال في 2021…سنهدم منزلك خلال 100ساعة
القرآن هنا يحدثنا عن نموذج للثبات على الدين، دون أن ينشغل في أسماء وأعداد أولئك الفتية، ولا حتى في ذكر موقع الكهف الذي آووا إليه، فتلك ليست مهمة القرآن، ولا هي من القضايا التي يجب أن تشغل العقل الديني، لأنها ليست ذات فائدة، في سياق العبرة التي يريد لنا القرآن الكريم، أن نستخلصها من هذه القصة.
في قصة ابني آدم أيضا، لم يلتفت القرآن للأسماء، إن كانا قابيل وهابيل، أو أية أسماء أخرى، فماذا ستيضيف الأسماء لطبيعة الحوار بين منطقي التسامح والعدوان؟!
هنا أيضا وجهة القرآن لا تقل وضوحا عن المثال السابق، فالعبرة هنا جوهرها التسامح، الذي قدم له القرآن الكريم على لسان المقتول:" لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " ثم عن وسم العدوان والقتل الذي قام به الأخ الآثم بأنه من تسويل النفس الأمارة بالسوء" فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين" فأي قيمة للأسماء هنا؟!
مثال ثالث: لاحظ أيضا في قصة العبد الصالح، الذي ذهب موسى ليبحث عنه، قال تعالى:" فوجدا عبدا من عبادنا، آتيناه رحمة من عندنا، وعلمناه من لدنا علما"..! ماذا كان سيضير القرآن الكريم لو قال:" أن اسمه الخضر"؟! كما قالت التفاسير، استنادا إلى مصادر غير قرآنية..!
المسألة هنا بالنسبة لنا واضحة، فالاسم ليس هو موضوع القرآن، ولا تضيف معرفته، أو بقاؤه مجهولا شيئا جديدا ذا قيمة للعبرة التي يريد لنا القرآن استخلاصها هنا.
ليست الأمثلة السابقة هي كل ما في القرآن، بل هي مجرد نماذج تجد شبيهاتها متكررة مع كل موضوعة من مواضيع القرآن، فهو لم يهتم مثلا بذكر اسم فرعون موسى، ولا بأسماء الرسل الذين أرسلهم للقرية التي جاء على ذكرها" إذا أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث" ولم ينشغل في مقاييس وألوان وهيئة اللباس، إنما اكتفى منه بذكر ما يستر العورة، ولم ينشغل في أن يحدد لك يمين الطريق أم يسارها للمشي، إنما اكتفى بالنهي عن إظهار التكبر في المشي، والتفاخر على الناس" ولا تمش في الأرض مرحا".
مقابل هذا التجاهل للتفاصيل غير المهمة، لم يترك القرآن أي فرصة إلا وأمر بالعدل، ونهى عن الظلم، وأشاد بالمنفقين والمتصدقين، وذم الشح والبخل، وطالب الناس بما ينفع الناس.
العقل الديني فيما بعد- وبكل اسف- ذهب في اتجاه الانشغال في تفاصيل التفاصيل، ليس فيما يخص القضايا الني تحتاج إلى تفاصيل، إنما مجرد مبالغات ذهبت بالدين بعيدا عن وجهته، حتى كتب أحدهم ثلاثة عشر مجلدا في فقه الطهارة، في وقت اكتفي القرآن بشطر آية لإجمال موضوع الطهارة..!
لا يمكن لعقل تستفزه قضايا على هامش الحياة، أن يعطي أولوية للقضايا الجوهرية.
الله سبحانه أعظم من أن ينشغل فيما لا وزن له، بينما لا يبدى اهتماما لما تبنى عليه الحياة الإنسانية كلها.