حماس وفقه الشعار!
"بنكشوا علينا راس.. والله لو حرروها منا مصلي فيها"
هذه كانت ردَّة فعل رجل خمسيني يبيع القهوة على الرصيف، عندما سمع شِعار قائمة حركة حماس الانتخابية "القدس موعدنا" على الراديو.
هكذا تنفضّ الناس عن مقدساتها الوطنية والدينية، عندما يستشعروا حجم التضليل في استخدامها من أجل المصلحة الخاصة للحزب، إذ كيف لحركةٍ لم تستطع فكَّ حصارها المفترض طيلة خمسةَ عشرَ عامًا، وهي مَن ادَّعت أنها تمتلك ألف وسيلة لفكه، وتريد الآن أخذ الناس لموعد في القدس؟!
يبدو الأمر غير منطقي لصاحب المنطق، لكنّ الشعارات لا تُدار عبر التفكير المنطقي، لأنها بالأساس مبنيّة على زندقةِ المنطق وتحويره للوصول بالجماهير إلى منطقة يُقاد فيها وعيها عن رضى وقبول، من خلال تحييد التفكير العقلاني لديها، كما أشار غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير: "العقل عامل سلبى لا ايجابي في التأثير على الجماهير؛ فالمنطق ليس له أي تأثير، ولكى نُقنع الجماهير لابد من التوجه لعاطفتها ... عن طريق الاستخدام الذكي للكلمات والعبارات المناسبة، لأن الكلمات التي يَصعُب تحديد معناها بدقة؛ تمتلك قدرة أكبر على التأثير"
اقرأ أيضاً في كتًاب زوايا: نوال السعداوي وخطاب التكفير
"ليست الكذبة في الوضع غير المباشر للكلمات، بل في الرغبة والنية" جوناثان سويفت
بالعادة ما تُصنع الشعارات عن طريق فهم العواطف الجيّاشة لدى الجمهور المتلقي لها، واستغلال مشاعرهم العاطفية تجاه قضياهم الوطنية أو الدينية من أجل "تقييف" الشعار المناسب لهم، ليعتنقوه بعد ذلك ويدافعوا عنه بأرواحهم ضد كل من يحاول كشف زيفه.
فالعقل يقول ألا نثق بأصحاب الشعارات حتى نراها حقيقة واقعة، وعملًا ملموسًا على الأرض، والسؤال هنا: ماذا تحقق من شعارات حركة حماس؟!
في البداية لا مُشكلة مع الشعار الحقيقي الصادق، فالشعار على مرّ الزمن أداة رئيسة في تعبئة الجماهير لخوض الحروب والصراعات وإحداث حالة تكاثف جماهيري في الأوقات العصيبة، وتوجيه المزاج العام ناحية قضايا معينة، لكن المعضلة هي في انهزام الروح المعنوية نتيجة الشعارات المُضلِّلَة، فالشعارات المضللة تُسبب نتيجة عكسية، تدفع بالجماهير إلى حالة عزوف عن كلِ ما يرمي إليه ذلك الشعار ومعانيه، والأخطر هو تعرض المقدسات الوطنية والدينية المستخدمة في تلك الشعارات إلى هزٍّة، وبالتالي سقوطها وتجرؤ الجماهير على السخرية منها، مثل شعار "القدس تنتظر الرجال" الذي عَمل على صدمة في وعي الجمهور، فهل تنتظر القدس من يقيم علاقات مع اسرائيل ويطبع معها أن يأتي ويحررها؟! إلى شعار "العودة وفك الحصار" الذي أُطلق في مسيرات السياج التي راح ضحيتها عشرات الألاف من الجرحى والمبتورين، وفي النهاية توقف كل شيء، وتم مقايضة الشعار (المقدسات الوطنية) بالأموال، ولم تحدث العودة، ولم يُفك الحصار، مما تسبب في قتل ما تبقى من روحِ الأمل لدى الجماهير التي شاركت في تلك المسيرات على مدار عامين وأكثر متأثرة ببراءة الشعار الجميل. وصولًا إلى وضع تواريخ محددة لتحرير فلسطين بتفسير ديني مغلوط، والتصريح بالإيعاز للنجارين بصناعة منبر خشبي للأقصى، إلى فتح باب التسجيل للسفر عبر ميناء غزة، وغير ذلك من الأقاويل والشعارات التي ربما لم يتحقق منها إلا شعار: "المتضرر هو المواطن"
"إذا بدأت بالوعد بما لم تحصل عليه بعد، فسوف تفقد الرغبة في العمل لنيله" باولو كويلو
نحن نعلم أنه لن يتحقق شيئًا من تلك الشعارات، وحركة حماس نفسها تعلم ذلك، لأنها بكل بساطة شعارات غير منطقية، وغير مبنية على خطط وأسس علمية، لكننا نعلم مدى الخسارة المادية والنفسية والمعنوية التي سوف تحدث نتيجة ذلك الفعل "الشعاراتي" ومدى انعكاسه على القضايا الوطنية التي أصبحت وقودًا للحفاظ على قدرة الحزب على المناورة في بقاءه فاعلًا في المشهد المحلي والعالمي، وهذا أخطر ما في الأمر، لأن استمراء استخدام القضايا الوطنية والدينية في شعارات توظيفية في غير محلها يعمل على افراغها من معناها، فتسقط من اهتمامات الناس، ومن يتحمل ذلك هو صانع تلك الشعارات بالدرجة الأولى.
"إذا خسرنا الحرب لا غرابة لأننا ندخلها بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه" نزار قباني
كان للشعار فيما مضى سلطة حاكمة في يد الدولة، ويساعدها على تشكيل وامتلاك وعي الناس من خلال خلق حالة شعبويّة تساندها، وذلك لأسباب عديدة أهمها تحكم الدولة في الاعلام وقدرتها على صناعة المحتوى الأوحد بلا منافس، أما الآن فالشعار أصبح تحت المجهر بسبب تعدد وسائل الاعلام التي من خلالها يمكن تعرية ذلك الشعار والسخرية منه.
اقرأ أيضاً: وعود السمن والعسل.. كيف سيقيم الناخب وعودات مكررة؟
لقد اُستهلك الشعار تمامًا طيلة سنوات مضت، وتم استخدامه في التضليل والمزايدة، وإراقة الدماء، لأن جمهور الناس بطبيعتهم التكوينية هم جمهور انفعالي متحيز على أسس عاطفية وحماسية، ويندفع بشكلٍ كبير في طريق الشعار الذي يُصنع له من قِبل متخصصين في توجيه الناس واستغلال عاطفتهم تجاه قضية ما من خلال تبسيطها وتقديمها في كلمات عامة مُبهمة تلبس ثوب المثالية والأحلام الوردية مثل شعار "القدس موعدنا" فهل تعي حركة حماس وغيرها من الحركات الفلسطينية الايدلوجية أن الشعارات المصنوعة في الغرف المكيفة تنجح في التأثير لوقت محدود، لكنها لا تصنع سياسة ولا تحرر أرض ولا تقدم أي حلول حقيقية لمعاناة الناس، ولا تقضي على البطالة ولا تبني المدارس والمستشفيات والمصانع، بل تخلق جيلًا مشوهًا سرعان ما ينفض عن قضاياه الوطنية بسبب ما تعرض له من خداع وتضليل ممن يفترض بهم أن يكونوا قدوة في الصدق والفعل؟!
يقول غوستاف لوبون: "إن معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير، تعني معرفة فن حكمها" والسؤال هنا: هل تريد حماس (بشعاراتها) الوصول إلى حكم الجماهير، أم تحريرهم؟