قرأت لها كتاباً واحداً فقط من بين أكثر من أربعين كتاباً تركتها خلفها، الكتاب بعنوان:" المرأة والجنس"، لم أتفق معها فيما شعرت أنها تريد قوله حول حرية الجنس، حتى لو خارج دائرة الزواج الرسمي، أما باقي موضوعات الكتاب فأظنني أوافقها على معظمها، لكن سؤالي هو: هل يمكنني محاكمة كل إرثها الثقافي من خلال قراءتي لكتاب واحد؟
أظن أنه لا يحق لي، فأنا لا أعرف كل آرائها- حتى اللحظة على الأقل- وما أقرؤه مما ينسب إليها بعد موتها لا أستطيع تبنيه ما لم أقرؤه داخل سياقاته التي كتبته فيها، فكثير مما يقتطعه الناس من السياقات التي قيل فيها يفقد معناه، أو يأتي بمعنى جديد لم يقصده صاحب النص من الأساس.
اقرأ أيضاً: نزاع الأطباء والحكومة في الضفة يعود للواجهة
لكن كل هذا ليس هو موضوعي الآن، بل إنني لم أكن أرغب في الكتابة حول السيدة سعداوي، خاصة بعد أن قرأت مئات المقالات، والفقرات التي تتحدث عنها، مادحة، أو ذامّة، فأنا:
أولاً: شعرت أن ما سأكتبه لن يضيف جديداً لكل ما كُتب، وهو لا يعدو كونه رغبة في القول: أنا هنا، وهذا ما لا أسعى إليه، فإما أن تقول شيئاً ذا قيمة يضيف للموجود، وإما فالصمت أولى،
ثانياً: لا أشعر بضرورة الكتابة حول كل حدث، خاصة بعد أن يتحول إلى ما يشبه البازار الذي تتزاحم فيه بضائع التجار.
موضوعي هو هذه الأفكار الداعشية التي عبرت عن نفسها مع موت السعداوي، شعرت أن كل ما قلناه من قبل، وما يمكن لنا أن نقوله من بعد وكأنه مجرد نفخ في قربة مخرومة، فلغة التكفير هي ذاتها، وظن بعضنا وكأنه مالك لمفاتيح الجنة والنار هو ذاته، مع عدم إنكاري طبعاً لتنامي الصوت البديل، وإن ببطء شديد، في مقابل الداعشية المتأصلة في أعماق أعماق ثقافتنا، ومشاعرنا.
توفيت السيدة سعداوي، وهي الآن بين يدي ربها، ولا أظنها كانت ستكترث بداعشيتنا حول أفكارها، فهي كانت قد واجهت طوال حياتها كل ألوان الصد، والتكفير، ولم يدفعها ذلك للتراجع، وظلت كما هي حتى بلغت التسعين عاماً، مؤمنة بما تدافع عنه، مخلصة لأفكار آمنت بها، حتى ذهبت إلى ربها.
ملاحظتي الأولى:
كيف عرف المتألهون مصيرها الأخروي؟
إن المصير الأخروي بيد الواحد الأحد، ولعل هذا تحديداً أشد ما يثير إعجابي بهذا الدين، فالله سبحانه هو وحده الذي يعلم السر وأخفى، وهو وحده الذي يعلم من آمن كيف آمن، ولماذا، ومن كفر كيف كفر ولماذا، وهل وجد من الأدلة ما يكفي للإيمان فجحد تكبراً وعلواً، أم أن غبشاً ما شوّه الصورة، ولربما هذا الغبش يتحمل مسئوليته المدافعون عن الإيمان ذاتهم، حينما يقدمونه بطريقة غير مقنعة، وربما رجعية، حتى نحن المؤمنون لا نقبلها.
ملاحظتي الثانية:
يتجاهل مشيطنو نوال السعداوي طبيعة الواقع الرجعي، والثقافة الرجعية المنسوبة زوراً إلى الله، والتي تسيطر على معظم الخطاب الديني، وربما تحديداً تلك التي غزت مصر مع تسرب السلفية الوهابية لها.
لقد قاومت نوال ااسعداوي مثلاً ظاهرة ختان البنات، واعتبرتها اعتداء على إنسانيتها، قبل أن يعترف الأزهر بخطأ هذه الظاهرة، ورجعيتها، بل كان الأزهر يعتبرها سنة من سنن النبي عليه السلام.
اقرأ أيضا: لماذا تلاحق إسرائيل المحتوى الرقمي الفلسطيني؟ (إنفوجرافيك)
كما يتجاهل المشيطنون واقع المرأة العربية المتردي، والتعامل معها كمجرد سلعة تباع وتشترى، أو في أحسن أحوالها مجرد اكسسوارات تكميلية لصورة الرجل، فقاومتها السعداوي، ربما بتطرف يقترب من تطرف واقع المرأة، وكان على المشيطنين أن يعترفوا بحاجة بعض القضايا التي قاومتها السعداوي إلى إصلاح، لكنهم يصمتون صمت القبور عن رجعية بعض مظاهرنا الثقافية، إن لم يكونوا داعمين لها من الأساس، وعندما يأتي من يدعو لتصويب انحرافها يصبح شيطاناً رجيماً يستوجب اللعن والطرد من رحمة الله.
ملاحظتي الثالثة:
الأفكار يُرد عليها بالأفكار، والهروب تجاه تكفير صاحب الأفكار هو شكل من أشكال الإفلاس، والعجز عن الرد على الأفكار، وهذا ما لا ينطبق على السعداوي وحدها، إنما طال كل صاحب فكرة لم تُطابق مقولات التكفيريين، وكم من مفكر، وفيلسوف، وصاحب رأي تم تكفيره قبل موته، ثم محاولة طرده من رحمة الله بعد موته..!
إن الخطاب التكفيري، والتأله على الله، والتقول عليه لهو من أخطر ما يعيق مسيرتنا الفكرية، والنهضوية، فالتفكير الحقيقي يحتاج إلى أجواء من الحرية تمكنه من الإبداع، والتطور، دون الحاجة إلى التسليم لكل فكرة جديدة، لكن منحها الحق في الدعوة لنفسها، وحفاظنا للحق في الرد عليها، وتفنيدها، لكن في أجواء من الحرية الخالية من الإرهاب بكل أشكاله، معنوياً، وفكرياً، وجسدياً.
رحم الله السعداوي، ورحم الله كل المسالمين من الجنس البشري كله، وهدانا الله لتعزيز قدرتنا على التفكير الحر دون خوف، أو إرهاب، أو أي شكل من أشكال التهديد الذي يحول بيننا وبين قول ما نريد وقتما نريد.