امتا آخر مرّة قلتلها بحبك؟! وين أمي؟!

امتا آخر مرّة قلتلها بحبك؟!
وين أمي؟!


هذا الاستفهام المُتكرر لدينا جميعًا، الذي نُلقي به في وجه باب الدار مجرد أن ندخله: وين أمي؟ هكذا بلا أي مناسبة أو احتياج فيزيائي قابل للتنفيذ، سؤال يشبه التعويذة، نظل نردده حتّى يأتينا الجواب على شكل: أمي في الغرفة الثانية تُصلي.


أمي فوق السطح تنشر الغسيل. أمي في المطبخ. وهكذا، فتهز رأسك، وتمارس ما بدا لك من عمل بقلب مطمئن، أو يقالُ لك جواب ناقص: أمي مِش في الدار.


فتطلق سيل من الأسئلة على من أعطاك تلك الإجابة: "أها وين؟! وين راحت؟! زمان طالعة، مين معها؟! وتظل تنتظر الإجابة حتى تَهتدي إلى مكانِها، فيطمئن القلبُ، ومن ثم تُمارس عادتك اليومية التي جئت لأجلها.


هذه المُمارسة مشروطة بالإجابة على سؤال. "وين أمي" لأن وجود الأم في حياتنا فعليٌ وليس معنوي.


اقرأ أيضاً: هل مرحلة التحرر الوطني تستدعي التخلي عن الحياة المدنية؟

إذ تحتاج العين لرؤيتها والأذن لسماعها، واليد إلى ملامستها، نحتاج إلى كل هذا من أجل الطمأنينة.


فالاحتياج هُنا احتياج للبقاء، والبقاء يحتاجُ إلى الماديّة أولًا، التي تتخلق منها الذكريات التي تساعد النفس فيما بعد على الصمود المعنوي بعد الفقد، لذلك من يفتقد الأم، يذبل، وترخص كل الأشياء في نظره، ولا يسأل عندما يدخل الدار: وين أمي، يدخلها بصمت، ويخرج منها بصمت.


شاهدتُ منذ فترة فيديو قصير يعرض ردود فعل الأمهات على تهنئة أبنائهم لهن بمناسبة يوم الأم من خلال اتصال هاتفي بدون عِلم الأمهات، والقول لهن: "يمّة أنا بحبك" واتضح لي أنني لست وحدي من يخجل أن يقول لأمه: "يمّه أنا بحبك"


كان المشاركون بالفيديو يقولون كلمة "بحبك" بخجل شديد، والكثير منهم تحاشى النظر إلى عين الكاميرا، وخبئوا وجوههم بكفوف أيديهم بعدما نطقوا بكلمة "بحبك"، فهناك من جعلنا نخجل من العاطفة ونجتهد بأن نظهر أننا قساة، بعدما أفهمنا أن العاطفة ضعف لا يستقيم، وأنها نوع من خوارم المروءة، حتى وصلنا إلى الحد الذي نخجل فيه من التعبير عن الحب للأم والأب وغيرهم من الأقرباء بالكلام، وليس بالأفعال.


فأغلبنا يمارس حب الأم والأب بالفعل، ولا يعبر عنه بالكلام، رغم أن القلوب في حاجة دائمًا إلى كلمات الحب والمودة.


إحدى الأمهات في الفيديو قالت لابنتها خلال الاتصال:"يمّة لو بتحبيني لِمِّيلي الغسيل".


لَمْ الغسيل هو حب أيضًا! وهنا أرادت الأم أن تخرج من حرج الحديث عن الحب والعاطفة، فذهبت إلى فضاء حبل الغسيل، ليتوه الكلام.


اقرأ أيضاً: غازي حمد يكتب لـ”زوايا”: التطبيع والثمار المرة!!


وشاب آخر قال لأمه على الهاتف: "يمّة أنا بحبك. فردَّت الأم قائلة: "ولا، شو مالك؟! خير آيش في؟!" فشعرَ الابن بحرجٍ شديد، وتمنى أنه لم يفعل، ولم يستمع إلى طلب مُقدم الفيلم، فحتى الأم هنا لم تستوعب كلمات الحب من ولدها، وظنّت أن في الأمر شيئًا، لأن العادة الحاصلة عكس ما فعله الابن.


وصبية أخرى، لم تستطع إكمال الجملة حتى تساقط الدمع من عينيها، في الحقيقة كانت الدموع في وجوه الجميع ولو غلفوها بضحكة خجولة، إلا أن الحزن كان واضحًا جدًا وهو يتسلل في الكلام والابتسامة، إذ تبكينا لحظات الفرح أكثر من لحظات الألم، وإننا إذا لم نخرج ما نخبئه من حب بداخلنا بالتعبير عنه والبوح به، سوف نشيخ قبل أواننا، فقلّة الحب تؤدي إلى انكماش الروح.


تبقى الأم في كرامة عالية لا يمكن للأبناء أن يفوا بمعروفها مهما حاولوا واجتهدوا، فهي بداية الحياة والذكريات، والشاهدة على نمو الجذع والأطراف، وتكوّن الحروف والكلمات،

فلا مساحة هنا للمجاز، المعنى واحد لا شريك له في التأويل. يخطفك كالرحيق، يُعلمك بحقيقة نفسك، يبعث في الوجدان صورة الأطفال، ونشيد الأصوات النائمة في الصدى والجدران، كدعاء الأمهات تحمله الملائكة إلى رحمة الرحمن.


حضنهن السِّر والمسرّة، فضاء واسع من الطمأنينة، وشعور لا تستطيع وصفه، تمامًا كالشعور الذي تحس به وأنت تنزل بالسيارة منحدر ما، أو تنزل بك الأرجوحة وتصعد، هناك شيء ما يدغدغ مفاصلك، وأسفل بطنك، تشعر به، لكنك أبدًا لن تستطيع وصفه، فهو "كزهر اللوز أو أبعد" كحضن الأم أو أقرب.


خاص زوايا- محمود جودة

مواضيع ذات صلة

atyaf logo