هل مرحلة التحرر الوطني تستدعي التخلي عن الحياة المدنية؟


هناك فهم خاطئ لطبيعة ما يُعرف بمرحلة التحرر الوطني، حيث تبدو وكأنها تستوجب التخلي عن كل أشكال الحياة الطبيعية، بحجة أننا لا زلنا في مرحلة نضالية تستوجب تضحيات كبرى أملاً في تحقيق التحرر.


يُستخدم هذا الفهم لتبرير العجز عن توفير مقومات الحياة الأساسية للناس، وأيضا للجم أي محاولة للشكوى من قِبل المهمشين، الذين يراقبون عن قرب ترف الجهات النافذة التي تطالبهم بالصبر، حتى بات حديثهم أشبه بالأفيون المخدر الذي من شأنه تغييب وعي الناس، وتخدير شعورهم بحقيقة الأزمة، أو المشكلة التي على المخَدَّرين ألا يشعروا بها.


الحديث هنا يتجاوز حدود العجز عن توفير مقدرات الحياة للمواطنين، ليصل إلى حد التعطيل، والاعتداء على أسس الحياة الطبيعية، أو المدنية التي أقرتها كل الأمم المعاصرة، كحق الناس في اختيار مسئوليهم من خلال انتخابات نزيهة حرة، وحقهم في الرقابة على المسئولين، وحق التفكير والتعبير الحر، والنقد، وغيرها من الأسس التي لم تعد المجتمعات المعاصرة قادرة على التنازل عنها، لكن عندنا دائماً هناك ما يتذرع به معطلو حياة الناس بأننا لسنا في دولة، ولا زلنا في مرحلة تحرر وطني، وأن مرحلة النضال تستدعي الصبر على فقدان الكثير من مقومات الحياة الأساسية، وأيضاً التنازل عن الكثير من مظاهر الحياة المدنية..!


اقرأ أيضا: عودة المساعدة الأمريكية للسلطة.. هل تنتظر اتصال بايدن-عباس؟

كان يمكن قبول فكرة التنازل عن بعض مقومات ومظاهر الحياة الطبيعية فيما لو كانت معركتنا مع إسراا ئيل من المعارك التي تٌحسم بجولة واحدة، أو في فترة زمنية محدودة، عندها كان يمكن قبول مبدأ التفكير في قبول هذا التنازل، وأيضاً وفق الحاجة، وليس وفق رؤية اعتباطية لا تفحص جدوى مقولاتها، لكن فيما يخص معركتنا مع إسرائيل فهناك نقطتان لا يمكن تجاهلهما من شأنهما أن تدفعانا تجاه إعادة النظر في آلياتنا النضالية.


النقطة الأولى: أن معركتنا مع إسرائيل طويلة المدى، بدأت منذ أكثر من مئة عام، مع بدايات التسرب الصهيوني إلى فلسطين، وقد تستمر لمئة عام أخرى، ما يعني أنها قد تستغرق حياة أكثر من خمسة أجيال كاملة من أجيال الشعب الفلسطيني.


أما النقطة الثانية: فهي أن معركتنا مع إسراا ئيل ليست معركة عسكرية وحسب، بل متعددة الساحات، عسكرية، وسياسية، وثقافية، وتكنولوجية، فنحن لسنا أمام مجرد جيش مسلح، نحن أمام دولة معاصرة، هي جزء من منظومة الحضارة المعاصرة بكل تفاصيلها، وهي وفق طبيعتها الحضارية تحاربنا في كل الساحات، في الرواية، والتاريخ، والتقنبة، والقيم، والإنسان، وكل شيء.


وفقاً لهذين المعطيين، فإن فكرة تعطيل حياة الناس المدنية لقرنين من الزمن تصبح في غاية السذاجة، والضرر، هذا ناهيك عن أن الإنسان لا يمكنه التنازل عن احتياجاته طوال عمره من المهد إلى اللحد، ولنا في الفلسطينيين الباحثين عن الحياة في شتات الأرض عبرة، ممن لم يُنتزع الوطن من قلوبهم، لكنهم انتُزعوا هم منه، حتى وإن بدا بإرادتهم، إنما الحقيقة أن أحداً من المهاجرين عن الوطن ما كان ليستبدله بكل بقاع الأرض لو وجد فيه ما يبحث عنه، من الطعام أولاً، ومن مقومات الحياة الإنسانية الكريمة الحُرّة ثانياً.


نحن إذن أمام معركة طويلة المدى أولاً، ومتعددة الأوجه ثانياً، نحتاج فيها لألا يتجاوز الثمن النضالي قدرتنا على التحمل حتى نستطيع المواصلة، ونحتاج فيها أيضاً لوسائل نضالية حضارية ننافس فيها إسراا ئيل، كأن نبني مجتمعاً حراً، ديمقراطياً، حضارياً في كل تفاصيله، جاذب للعقول، ولرءوس الأموال الباحثة عن الأمان، وللطاقات الجبارة التي يمتلكها الفلسطينيون حول العالم، والتي اكتسبوها بسبب الشتات، والاطلاع الكبير على معظم ثقافات العالم.


اقرأ أيضا: حصري: “زوايا” تكشف تفاصيل حوار القاهرة والاتفاق على محكمة للانتخابات

من يقاتل دولة بحجم إسرائيل وبطبيعتها عليه أن يقاتلها بأدوات تشبه أدواتها، والسلااح ليس هو أداتها الوحيدة،،، التنمية، والبناء في الإنسان، وتعزيز سيادة القانون، وامتلاك القدرة على عرض الرواية، وتقديم نموذج أخلاقي يبطل مزاعم إسراا ئيل عن همجيتنا، وعجزنا عن إدارة شئون أنفسنا، وجعل الوطن أداة جذب للطاقات، وليس أداة طرد.


باختصار: الحياة المدنية بكل معنى الكلمة ليست نقيضاً لمرحلة التحرر بل إحدى أهم أدواتها.

مواضيع ذات صلة

atyaf logo