(1) منافسة حامية
من الواضح أن الانتخابات الفلسطينية، إذا جرت كما هو مقرر لها، فإن المنافسة ستكون على أشدها بين القوى السياسية في الحصول على أكبر قدر ممكن من مقاعد البرلمان.
وواضح أن ميدان المنافسة هذه المرة سيكون بين حركتي حماس وفتح اللتين تقومان بجهود هائلة من أجل إثبات قوتهما في الساحة الفلسطينية، وتعملان على تجديد (شرعيتهما) في النظام السياسي.
بشكل عام، فإن مسار الانتخابات إلى الآن يسير بشكل معقول من حيث الإجراءات وتسجيل الناخبين وصدور المراسيم الرئاسية المطلوبة، لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن هناك ألغاما مدفونة تحت الأرض تهدد الأرضية الرخوة التي تقوم عليها الانتخابات.
ولا شك أن الخلاف الشديد الذي طفا في الإعلام مؤخرا حول وجود معتقلين سياسيين لدى الطرفين والمطالبة بإطلاق سراحهم، والخلاف على المحكمة الدستورية ومحكمة الانتخابات وبعض القضايا المتعلقة باستقالة المرشحين أعطت إشارات سلبية حول الأجواء الطبيعية التي ينبغي توافرها لإجراء الانتخابات، وكعلامة بارزة على فقدان الثقة القائمة بين الأطراف خاصة حركتي حماس وفتح.
اقرأ أيضاً: “زوايا” تكشف خفايا المصالحة بين عباس ودحلان
إن التصريحات الإعلامية التي صدرت وحملت مضامين هجومية واتهامات متبادلة بمحاولة تعكير أجواء الانتخابات تعزز التخوفات المحتملة في فترة ما قبل وما بعد الانتخابات وقدرة الطرفين على تجاوز الهوة العميقة التي تفصل بين قطبي السياسة الفلسطينية.
لقد حاول الفرقاء الفلسطينيون في حوار القاهرة أن يتجاوزوا المشكلات العالقة ويؤسسوا لأرضية صلبة تقوم عليها الانتخابات وتدرأ عنها الكثير من العقبات التي تقف أمامها، غير أنه لم تسنح الفرصة لإجراء نقاشات معمقة لمعالجة الملفات الهامة والحساسة التي يمكن أن تشكل معضلة حقيقية في تثبيت أركان النظام السياسي، وإنما جرى الاتفاق على خطوط عامة جدا لا تكفي لإعطاء ضمانات قوية بنزاهة وشفافية الانتخابات.
(2) ألغام تحت الأرض
ويبدو أن عادة الفصائل الفلسطينية منذ سنوات كما هي!! ترحيل الأزمات بشكل مستمر إلى مرحلة لاحقة والاستعجال في فرض الإجراءات على الأرض، الأمر الذي يصعب عليهم تقديم معالجات حقيقية للمشاكل المتراكمة في حديقتهم الخلفية.
فعلى سبيل المثال، لم تنجح القوى السياسية في اعتماد برنامج سياسي يكون قاسما مشتركا بين الجميع خاصة فيما يعرف بـ(الثوابت الوطنية)، وإنما تناول برنامجا فضفاضا يستند إلى وثيقة الوفاق الوطني ومخرجات اجتماع الأمناء العامين، وتجاوز ما نصت عليها اجتماعات المجلسين الوطني والمركزي في تحديد العلاقة بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني. وقد اتضح الخلاف عميقا من التصريحات التي صدرت من عدة أطراف فلسطينية مشاركة في الانتخابات.
فحركة فتح تقول إن الانتخابات تجري بناء على الاتفاقيات السياسية التي عقدتها منظمة التحرير والمستندة إلى قرارات الشرعية الدولية وحل الدولتين، وأنه لا يمكن القول إن الانتخابات تتجاهل اتفاقات أوسلو التي رسخت لعملية السلام بين المنظمة وإسرائيل، بينما رفضت حماس بشكل واضح أن تكون الانتخابات تجري تحت سقف اتفاقات أوسلو، وقالت إنه "قد تم تجاوز اتفاقات أوسلو وإنها أصبحت وراء ظهورنا"، كما أكدت الجبهة الشعبية نفس المضمون على أنها تدخل الانتخابات "ببرنامج مقاومة وليس على أساس اتفاقات أوسلو".
اقرأ أيضا: الشعبية لـ”زوايا”: نسعى لتكوين تيار ديمقراطي يكسر ثنائية فتح وحماس
هذا الخلاف السياسي العميق بين القوى السياسية المشاركة في الانتخابات يضعها أمام تحد كبير في تبني رؤية سياسية تشكل قاسما مشتركا وتتجاوز الفشل الذي صاحب المسيرة السياسية التي استندت إلى اتفاق اوسلو عام 1993.
وفي نفس الوقت، فإنها ستجابه بموقف المجتمع الدولي الذي يصر على أن اتفاقات أوسلو هي مرجعية السلطة الفلسطينية وسبب وجودها وسبب الدعم الدولي لها، فضلا أن الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة بايدن أكدت على ضرورة الالتزام بشروط الرباعية الدولية، وأنها لن تعترف بأي حكومة فلسطينية لا تلتزم بتلك الشروط.
(3) فتح.. أمام معركة مصير
تواجه حركة فتح انقساما عميقا في تنظيم وترتيب بيتها الداخلي استعدادا للانتخابات العامة وتهدد صفها الداخلي بمزيد من الانقسام، حيث تعصف بها الكثير من الخلافات حول خوض الانتخابات بقائمة واحدة، وبرزت هناك العديد من الأقطاب السياسية الفتحاوية التي ترى أن حالة فتح بحالتها الراهنة غير مرضية وتحتاج إلى عملية إصلاح جوهرية وإلا فانها قد تواجه خسارة كبيرة في مواجهة حركة حماس.
وواضح أن الرئيس أبو مازن -والذي هو أيضا رئيس حركة فتح- لا يحظى بقبول نسبة ليست بالقليلة في صفوف الحركة، كما يتهمه الكثيرون أنه السبب وراء الخلافات الداخلية التي دفعت الكثيرين من أعضاء الحركة للخروج عن صمتهم والتنديد بإجراءات أبو مازن وفي التشكيك بقدرته على إدارة الحركة.
اليوم، حركة فتح تتوزع بين ثلاث تيارات، الأول يقوده أبو مازن، والثاني يقوده النائب المعتقل مروان البرغوثي، والثالث يقوده النائب المفصول من الحركة محمد دحلان، وهذه التيارات الثلاث بينها الكثير من الفجوات والخلافات التي تمنع صهرها في بوتقة واحدة.
وبالرغم من أن أبو مازن يسعى بكل قوة إلى الخروج بقائمة موحدة للحركة وتوحيدها تحت رايته إلا أن ذلك يبدو بعيد المنال، ورغم التهديدات التي أطلقتها قيادة الحركة بمعاقبة كل من يفكر بتشكيل قائمة منفردة عن الحركة إلا أن ذلك لم يمنع من تعالي الأصوات بضرورة إجراء إصلاحات عميقة في حركة فتح ورفض سياسات أبو مازن وتوجهاته.
ويشكل مروان البرغوثي منافسا قويا لأبو مازن، فهو غير راض عن سياساته ولا عن إدارته لشئون حركة فتح الداخلية، ويحاول مروان أن يبرز كزعيم قوي للحركة رغم محكوميته العالية التي تخفيه وراء القضبان سنوات طويلة وتمنعه من ممارسة نشاطه السياسي، وقد نجح في خلق تيار موال له داخل الحركة تدين له بالولاء وتتمتع باحترام في أوساط الحركة عموما.
وقد حاول أبو مازن استقطاب مروان البرغوثي عبر وسائل مختلفة إلا أن هذه المحاولات لم تنجح عبر سنوات طويلة وبقي الخلاف بينهما كبيرا.
البرغوثي يصر على خوض انتخابات الرئاسة طمعا في تشكيلها ضغطا لإخراجه من السجن، وفي نفس الوقت يحاول تصويب مسار حركة فتح من خلال العمل على تشكيل قائمة منفردة عن قائمة أبو مازن لخوض انتخابات المجلس التشريعي.
وحسب استطلاعات الرأي التي تجري بين الحين والآخر في الساحة الفلسطينية فإن مروان البرغوثي يتفوق على الرئيس ابو مازن في انتخابات الرئاسة.
في نفس الوقت فإن محمد دحلان الذي يقود (التيار الاصلاحي لحركة فتح) يعزز من حالة الانقسام في الحركة ويضعها أمام خيارات صعبة لخوض الانتخابات. فدحلان لديه أنصار من أعضاء الحركة في الضفة والغربية وقطاع غزة، وحسب التقديرات العامة فإنه قد يحصل ما بين 10-15 مقعدا، وسيشكل له منافسا قويا تحت قاعة البرلمان وفي منافسته على تزعم حركة فتح.
إذا ما أصر البرغوثي ودحلان على خوض الانتخابات بقائمتين منفردتين عن قائمة أبو مازن فإن هذا يعني خسارة كبيرة لحركة فتح، وسيفتح المجال أمام حركة حماس كي تكون في صدارة المشهد السياسي.
إن حركة فتح اليوم على مفترق طرق!! وقد يتحدد شكل الحركة وتوجهاتها الأسابيع القادمة بناء على محاولات رأب الصدع بين أبو مازن والبرغوثي، والتي إذا ما فشلت فإنها ستنعكس بشكل تلقائي على حدة الصراع في الساحة الفلسطينية وربما تنذر بمجلس تشريعي تغلب عليه الخلافات أكثر من نقاط التوافق.
في المقابل، فان حركة حماس تدخل الانتخابات بثقة كبيرة كونها لا تعاني من مشاكل داخلية، بل إن كل المؤشرات تؤكد أنها متماسكة ومصممة على خوض الانتخابات بقوة أكبر مما كانت عليه في عام 2006.
غير أن المعضلة الحقيقية التي تواجه الحركة يتمثل في عدم قدرتها على المنافسة بحرية في الضفة الغربية، حيث يتعرض أعضاؤها إلى الاعتقالات المستمرة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وأحيانا إلى التضييق من قبل الأمن الفلسطيني.
حماس تدرك أن الانتخابات فرصة ذهبية للخروج من أزمة الحصار الذي فرض عليها طوال 15 عاما، وأيضا فرصة لتعزيز وجودها السياسي في الساحة الفلسطينية بعدما وصلت (إشارات) تقول إن المجتمع الدولي سيتعامل مع نتائج الانتخابات بصورة مغايرة لما كانت عليه في الانتخابات السابقة عام 2006.
ومما يعقد المشهد السياسي أكثر، ويجعله ساحة كبيرة ومعقدة للمنافسة بين حركتي حماس وفتح هو عدم اتفاقهما على تشكيل قائمة موحدة لخوض الانتخابات، والتي كان يتطلع إليها الكثير من الفلسطينيين على أنها مؤشر إيجابي على صدق التوافق بين الحركتين.
اليوم بات مؤكدا أن القائمة الوطنية الموحدة غير واردة، وأن كل فصيل ستكون له قائمته الخاصة.
إن هذا قد يفهم على أنه صورة جديدة لإدارة الانقسام وتوزع صلاحيات النظام السياسي بين حركتي حماس وفتح واستمرار غياب الثقة بين الطرفين، وكذلك مؤشر سلبي على مرحلة ما بعد الانتخابات التي يتوقع منها أن تكون مرحلة جديدة تعيد تشكيل النظام السياسي الفلسطيني على أسس مختلفة، وتمهد الطريق أمام إعادة إصلاح منظمة التحرير وتبني رؤية سياسية قادرة على مواجهة مخططات الاحتلال.
إن الطريق لا زال طويلا أمام الفلسطينيين لإعادة الاعتبار للوحدة الوطنية بمضمونها الحقيقي وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني، وستكشف هذه الانتخابات إذا ما كان الفلسطينيون يسيرون في الاتجاه الصحيح أم في الاتجاه الخاطيء.
بقلم: د. غازي حمد