"صدق مَن قال همّ البنات للممات" هكذا بكُلِّ حُرقةٍ قالَها وهو ينزل من السِّيارة يُقاتل الهواءَ أمامه، بعد حوارٍ قصير أجراه عبر الهاتف مع زوجته، مفادُه أنَّ ابنتهم قد تركت المنزل ولجأَتْ إلى بيتِ أبيها بسبب خلافٍ حادٍّ وقعَ بينَها وبينَ زوجها.
كثيرٌ من الأمور تكون مَشاعةً إلى حد التصديق، لكنَّها في الحقيقة مغالطةٌ كبيرةٌ، ووهمٌ تمَّ صناعته عبرَ طرقٍ مُمنهجةٍ تعمل على تشكيلِ الوعي المُجتمعيِّ بصورةٍ عامَّة، فقد تمَّ تطويع اللُّغة كما حصل مع تطويع النصوص الدينية وقولبتِها في اتجاهٍ لُغويٍّ مُعينٍّ يخدم فكرة إلباسِ البنات ثوب "الهمِّ" منذُ الميلاد وحتَّى الوفاة.
إن كانت همًّا، مَن سببُ ذلِك؟!
الإجابةُ على هذا السؤال تُفكِّكُ ذلك المفهوم القاصر عن النساء وكينونتَهُن، بوصفهِنَّ "هَم".
قبل أيامٍ كنتُ في زيارةٍ إلى إحدى المؤسسات النَّسوية، وسمعتُ حديثًا بين إحدى الموظفات في المركز، وزميلٍ زائرٍ للمؤسسة كانت تسأله الصبية عن حَملِ زوجته ونوع الجَنين، فقال لها أنَّ زوجته حاملٌ بأُنثى، فاكفَهَّر وجهُ المرأة من سَماع الخَبر، مِمَّا أثارَ استغراب الرجل الذي سألَها عن سبب ذلك وهي التي تعمل في مؤسسة نسوية وتدعو إلى حريتِّها واحترامها وتدَّعي الدفاع عنها، فجاوبَتْهُ المرأة بالأسطورة المُجتمعية التي تقول أنَّ الولدَ مَهما كان هو النافعُ المُعيل.
اقرأ أيضاً:صالح رأفت يكشف لـ “زوايا” فصائل المنظمة تدرس تشكيل قائمة موحدة لخوض الانتخابات
هذه المرأةُ لم تُجبْ بلسان عقلها أبدًا بل بلسان الوعي المزيف الذي تسرَّب لها عبر شُروخٍ غائرةٍ في الثقافة والوعي والأمثال الشَّعبية، وهي المرأة التي تعمل في مؤسسة نسوية، لكنَّها ما زالت تفتقد اليقين في ذاتها أولًا كإمرأة، وفي جَدوى ما تفعلُه، لهذا نجد أنَّ التقاليدَ الموروثة أقوى بكثيرٍ من أيِّ تغييرٍ شكليٍّ لا يُبنى على قوانينٍ ويَقين.
هذا سببُه أن المرأة في مجتمعِنا تتعرض منذ الميلاد إلى تنشئةٍ مُجتمعيَّة تزرع فيها مفاهيمَ سلبيةً عن ذاتها وقدراتها، فهي الضعيفة التي لا تستطيع حمل الأشياء الثقيلة مثل أخيها، وهي التي يجب أن تظهر في ثوبِ المُطيعة كي لا يُقال عنها أنَّها مسترجلةٌ، وهي الضلعُ الأعوجُ، وناقصةُ العقل والدِّين، ومَكمَنُ الغِواية، وهي التي تحتاجُ دومًا إلى مراقبة الرجل، وهي نقطة ضعف الأب التي يجب أن يطمئنَّ عليها ويُزوجها قبل وفاتِه، لأنَّه لا يضمن ماذا سوف تفعل بها السنينُ بعدَه.
لأنَّ المجتمعَ قد جعلَ من المرأةِ "هَم" ثم صارَ يشتكي منه، فلو كان للمرأة خيارُها الحقيقيُّ، وليسَ الخيارَ الشكليَّ الموجَّه، لما كانت المرأةُ همًّ أحدٍ والعبءَ الذي وجبَ الخلاصُ منه في أسرعِ وقتٍ مُمكنٍ بالزواج، ذلكَ الإطار المجتمعيُّ المقبول لنقل ملكية "الهم" إلى رجلٍ آخَر، ورغمَ ذلك يبقى "الهمُّ" للمَمات.
إنَّ مجتمعًا زرعَ في المرأة كلَّ هذه النقائص، وجعل منها كائنًا مَوصومًا "بالهَم" لن تقوى دعائمُه أبدًا على مواصلةِ الحياة في دُنيا أصبحَ التنافسُ فيها على إطلاق الحُريَّات التي تدفعُ بالفردِ بعيدًا عن جنسِه ليكونَ عنصرًا قائدًا وفاعلًا في نهضةِ مجتمعِه، وسوفَ يعيشُ في هشاشةٍ ثقافيةٍ واقتصاديةٍ تجعلُ منه مجتمعًا مريضًا مهزومًا داخليًّا مُتشكِّكًا في مبرراتِ وجودِه وفائدتِه.
كيفَ لا وهو يصفُ نصفَهُ بالهَمِّ المحمول على الأكتاف ولا راحةً منهُ إلَّا بالممات.
اقرأ أيضا: حصري: “زوايا” تكشف تفاصيل حوار القاهرة والاتفاق على محكمة للانتخابات
إن الهمَّ الحقيقيَّ الذي يُثقلُ كاهلَ المرأة ويحاصرُ كيانَها هو الظنُّ السَّيئُ بها والتثبيطُ من عزمِها وقدراتِها وتمييزِها السلبيِّ بسبب الجنس، فالمرأُة ليست همًّا، بل رايةٌ عاليةٌ، وشرفٌ رفيعٌ، وعقلٌ كبيرٌ وطاقةٌ عظيمةٌ لو أُتيحَ لها المَجال دون قصِّ أجنحتِها بمَقصِّ التعجيز والتَّثبيط.
فمِن واجب الأهالي أنْ يكفُّوا عن ترديد هذه الأمثال المَعطوبة، وأنَ يُعلوا من قيمة بناتِهم، وأنَ يستمعوا لهُنَّ بكُلِّ حُبٍّ وقُبول، بعيدًا عن أيِّ ضغوطٍ ثقافيَّةٍ موروثةٍ وأنْ يستمِعوا بجدٍ لشكواهِنَّ وأن يستَشعِروا ألمَهُنَّ النفسيَّ، ويبحثوا عن الحُلول، بعيدًا عن ضغطِ المرأةِ في سبيل النجاة بأقلِّ الخَسائر، لأنَّنا بهذه الحالة سوف نغرقُ أكثرَ ونُغرِقُ أقربَ الناسِ إلينا، كلُّ هذا لأنَّنا خِفنا أن نجهرَ بالقول، وأن نقول أنَّ البنات لَسْنَ همًّا، بل فرحٌ مضارعٌ مستمرٌ يخافُ منهُ من أطبق التخلفُ على عقلِه وقلبِه.