تغيير اسم شارع عمر المختار بغزة! الممول هيك بده

في أواخر العقد الأول من القرن العشرين، شُق في مدينة غزة شارعًا كبيرًا وسط المدينة أطلق عليه اسم "جمال باشا" نسبة إلى القائد العسكري العثماني جمال باشا المعروف بالسفاح، وإلى الأن لم يُعرف من صاحب فكرة اطلاق اسم "السفاح" على أكبر وأهم شوارع المدينة، وهو الرجل الذي - له ما له وعليه ما عليه على رأي أخوتنا المصريين - بالتأكيد أن "الباشا السفاح" لم يكن في باله أن يُطلق اسمه على شارع في مدينة غزة، لكن هناك من أراد أن يكسب وده، أو بلغة الموسم "يسحج له" من خلال هذا الفعل، وإن حصل وامتعض الناس نقول لهم: "الممول هيك بده"


في عام 1943 أُعيد انتخاب السيد فهمي الحسيني لرئاسة بلدية غزة للمرّة الثانية، فكان قرار المجلس البلدي بتغيير اسم الشارع آنف الذكر، إلى شارع يحمل اسم عمر المختار، نسبة إلى الثائر الليبي الشهير الذي أعدمه الاستعمار الإيطالي عام 1931، وقتها ثارت ثائرة المستعمر الإيطالي.


اقرأ أيضا: استقلالية موؤودة.. تغول السلطة التنفيذية على قضاء فلسطين

وقام قنصلهم في القدس بتهديد رئيس البلدية في غزة وتحذيره من تسمية الشارع باسم الثائر المشنوق، وهكذا فعل الانتداب البريطاني الذي رفض الأمر وحذر من عواقبه، لكن رئيس البلدية السيد فهمي الحسيني "عَمل حالهُ مِش سامع" وقام بتغيير اسم الشارع إلى عمر المختار، فأضمرت سلطات الانتداب نيّة الغدر لرئيس البلدية الذي كان مثالًا للوطنية الحقيقية التي تعتد بنفسها، فقامت باعتقاله وعزله من رئاسة البلدية عام 1938، وأودعته في سجن صرفند حتى توفي عام 1940 بعد اطلاق سراحه بعام، وإلى يومنا هذا بقي الشارع بنفس الاسم وعندما يُذكر المختار، يذكر الحسيني، ولا يُذكر من سمّى الشارع على اسم السفاح.


أسماء الشوارع، والمتنزهات، وحتى المساجد والمشافي هي أسماء ذات دلالات وطنية وسياسية للمجتمع، أي أنها نابعة بالضرورة من ثقافة حرّة ومستقلة، فقديمًا، كانت الأسماء تأخذ من اسم المدينة وعائلاتها صفةً لها، فكان منتزه بلدية غزة، ومشفى غزة البلدي، أما بعد النكبة والنكسة وحتى قيام السلطة الفلسطينية عام 1993 تغيّر الأمر، فقد كان لدينا شهداء كُثر، وبطولات أكثر، وثورة ما زالت تبرق بالأمل في تلك السنوات، فصارت الشوارع تُكنى بأسمائهم تخليدًا لهم، فهذا شارع الشهيد وهذا مشفى الشهيد، وهذه مدرسة الشهيد وهذا مسجد الشهيد وهكذا، حتى بت تشعر أنك شهيد مع وقف التنفيذ.


اقرأ أيضا: حصري: “زوايا” تكشف تفاصيل حوار القاهرة والاتفاق على محكمة للانتخابات

رغم أن أغلب التمويل المستخدم في إنشاء ذلك المعمار من المدارس والمشافي وشق الطرق كان كله من أموال إغاثية، لكننا كُنا نتحكم في التسمية، لأننا كُنا نمتلك - ولو جزءًا يسيرًا - من إمكانية رفض هذا التمويل، والاستغناء عنه، أو استبداله، عوضًا على وجود كيان يساعد على الاستثمار والبناء الذاتي قدر الإمكان بصفته نظام شرعي يتمتع بالاعتراف الدولي، لكننا في العقد الأخير، وبسبب الانقسام والمزايدات الحزبية والارتهان للمتبرع، فقدنا هذه الإمكانية، فتم إغلاق باب الاستثمار، وفتح باب التبرعات على مصراعيه، فصرنا نمشي في قطاع غزة ونسمع بأسماءٍ لا ندري عنها شيئًا.


حتى أن أحياء كاملة في مدن تم تسمية شوارعها ومدارسها ومساجدها بأسماء دول وعواصم وشيوخ لأنهم قاموا بالتبرع لإقامة هذه المشاريع، وصار لزامًا علينا من باب " اطعم التم تستحي العين" أن نُسمي منطقة تاريخية معروفة، باسم شخص غريب عن هواء هذه المدينة ونضالها، ونُسجل طلابنا في مدرسةٍ على اسم شخص لا نعرفه، ونتعالج في مشفى لعاصمة دولة لا تقبل دخول الفلسطيني إليها إلا مربوطًا بتأشيرة وكفيل!


قبل سنوات عندما حدثت القطيعة بين المملكة السعودية ودولة قطر، أطلق بعض سكان الحي السعودي الذي أنشأته السعودية في مدينة رفح، سؤالًا ساخرًا حول شمول المقاطعة مدينة حمد السكنية التي أنشأتها دولة قطر، وأطلقوا النكات من باب السخرية على حالٍ يَسرُ العدو، ويُبكي الصديق، لقد كان الأمر مأساويًا جدًا.


لقد تحول قطاع غزة إلى ساحة للتبرع، وهناك من ساعد على هذه الحالة من داخل القطاع وخارجه، فصورة الغزي المحتاج مُهمة في جلب التبرعات، الفردية، والمنظمة، حتى تحوّلت صوة الغزي من صورة الثائر إلى صورة المتسول، وهو الكريم الذي جاد بالمال والنفس في سبيل فكرة الحرية، فأضحى كل ما يعيش عليه هو من أموال التبرعات والهبات والمكرمات، فرواتب موظفيه، وعلاج مشافيه، وسجاجيد مساجده، وإنارة منازله، كل شيء في غزة أصبح ممسوح بكف يد المتبرع، كل هذا حصل لأن يد العامل غُلّت، ودُمر مصنعه، وخزينة التاجر قد أفلست، واستنزفتها الضرائب، وأُغلق أبواب الاستثمار والعمل، مما استدعى فتح باب التبرعات والارتهان لها حتى في إطلاق الأسماء على المشروعات، كنوعٍ من استمرار استجلاب التبرع تحت ستارة كاذبة نغطي بها انكشافنا المخجل تُسمى: "هيك الممول بده"


خاص زوايا: محمود جودة

مواضيع ذات صلة

atyaf logo