تقرير أين نجحت وأخفقت الدبلوماسية الفلسطينية؟

الخارجية الفلسطينية
الخارجية الفلسطينية

شهدت القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة انتكاسات قاسية، ما فتح الباب أمام توجيه الأسئلة اللائمة للدبلوماسية الفلسطينية، باعتبارها تتحمل مسؤولية تراجع مكانة القضية على المستوى العربي والعالمي، حدّ التمهيد لهذه الانتكاسات.

وضع موقع "زوايا" عمل الدبلوماسية الفلسطينية في الآونة الأخيرة في ميزان التقييم، مستعرضا آراء عاملين بوزارة الخارجية ومختصين بالعلاقات الدولية، لإيضاح جوانب الإنجاز والإخفاق في معركة القوة الفلسطينية الناعمة.

ظروف معقدة

يقول مساعد وزير الخارجية للعلاقات متعددة الأطراف السفير عمار حجازي، في حديث خاص بموقع "زوايا"، إن الدبلوماسية الفلسطينية عملت في السنوات الاخيرة ضمن ظروف دولية واقليمية معقّدة، بدءاً من النزاعات العربية والإسلامية، ومروراً بتولي إدارة "يمينية صهيونية" مؤيدة للاستعمار الاسرائيلي صنع القرار في الولايات المتحدة.

وأضاف أنه في ظل هذا الجو المحتقن، وما ساده من عواصف سياسية وتغيرات كثيرة، كان مطلوبا من الدبلوماسية الفلسطينية "المُناورة".

وتابع السفير حجازي: "صحيح لم نستطع أن نحقق اختراقات واسعة، ولكن تصدّينا لهجمات كادت أن تطيح بقضيتنا وتودي بها إلى غياهب النسيان، خاصة إذا ما تم أخذ كل المعطيات سالفة الذكر بالحسبان، فما نستطيع أن نحققه اليوم تحديداً لجهة الحفاظ على القضية الفلسطينية، والمرجعيات القانونية، وكل المكتسبات السابقة".

وعبر عن اعتقاده أنه في ظل هذه الظروف، فإن أي تقييم موضوعي للعمل الدبلوماسي والسياسي الفلسطيني يستنتج أنه "ناجح"، مضيفا "لو كانت الظروف مختلفة، عندها يمكن الحكم على أدائنا بشكل مختلف".

وحول ما إذا اتسمت الدبلوماسية الفلسطينية في السنوات الأخيرة بمنطق "الدّفاع" دون المبادرة والهجوم، يرى السفير عمار حجازي عكس ذلك، معتبراً أن "الآلية التي اتبعناها دائماً هي الدفاع والهجوم والمبادرة والبحث عن أبواب جديدة أمام قضيتنا وشعبنا".
اقرأ أيضا: عشراوي لـ”زوايا”: المنظمة شكل بلا جوهر والانتخابات جاءت بضغوط

وأوضح "هناك دلائل كثيرة في هذا الإطار بما فيها الآليات الدولية المختلفة التي انتهجناها في ظل الإدارة الأمريكية المُعادية (إدارة ترامب السابقة)، والتخوف الدولي الواسع في التعامل معها، والتصدي لها".

وتابع: "بذلنا جهوداً في هذه الظروف الصعبة، للحيلولة دون تآكل القضية، والمحافظة على مكانة الأونروا ورفض وسم النضال الفلسطيني بالارهاب، فضلاً عن محاولات القضاء على المرجعيات السياسية للحل المبني على القانون الدولي".

منجزات الدبلوماسية الفلسطينية

وضرب السفير حجازي مثالاً على آليات عمل الدبلوماسية الفلسطينية خلال الأربع سنوات الصعبة الماضية، حيث تمثل بتقديم شكوى إلى "اللجنة الدولية للقضاء على التمييز العنصري"، بخصوص ممارسات الاحتلال العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني، والعنصرية في النظام الاستعماري المُقام على الأرض الفلسطينية.

وأوضح السفير حجازي أن هذه شكوى وصلت تقريبا إلى مراحل مهمة، منوهاً إلى أنها إحدى الآليات التي "فعلناها بالمرحلة الماضية"، بالإضافة إلى خطوات أخرى تصب بطريقة عمل تفاعلية من أجل "تطوير سبل حماية القضية، ومنع الأطراف الأخرى من تدمير أسس قضيتنا".

واستذكر حجازي في السياق، واقعة إحباط ما طرحته نيكي هيلي، ممثلة الإدارة الأمريكية السابقة بالأمم المتحدة، بهدف القضاء على كل المرجعيات الدولية التي تخص قضية فلسطين، منبها إلى أنه بدلاً من ذلك "تم تجديد العناصر المحافظة على قضية فلسطين ومكانتها".

المسؤولية عن ضعف الدبلوماسية

وبشأن الضعف الفلسطيني على مستوى الدبلوماسية العامّة (الشعبية) ومرورا بالرقمية، أقر السفير عمار حجازي بوجود ضعف على هذا المستوى، لكنه قال "إن هذا الضعف لا تتحمل مسؤوليته فقط وزارة الخارجية والسفارات، وإنما عمل جماعي يتطلب خطة أشمل وأوسع، لتطوير الدبلوماسية العامّة".

وأضاف: "هناك جهد حكومي بحاجة لتطوير وتفعيل، وأن يتم رفده بخبراء، لأن الدبلوماسية العامّة عمل مختص وفني ذو حساسية عالية، خاصة أن الكلمة اليوم تُحسب وتُؤخذ بأكثر من اتجاه".

وهنا، يدعو السفير حجازي إلى تطوير الدبلوماسية الشعبية وأطرها وأدواتها، بالاستعانة بقدرات حكومية وأهلية وشعبية، وكذلك المغتربين الفلسطينيين الذين يتحدثون كل لغات العالم، وصولا للتصدي لحملة الاحتلال الشرسة المرفودة بمليارات الدولارات من قبل وزارة الاستراتيجية والدبلوماسية العامة في "إسرائيل"، والتي أنشئت لغرض تشويه "قضيتنا ونضالنا والقضاء على عناصر القضية".

من جانبه، يقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بيرزيت د.غسان الخطيب إن قسماً من المسؤولية يقع على الأداء الدبلوماسي الفلسطيني وفاعليته، موضحاً انه "دون شك، هناك نوع من التراجع على صعيد فاعلية أداء السلطة الدبلوماسي".

لكنّ الخطيب رأى في حديث خاص لموقع "زوايا" أنه من باب العدالة، فإن ثمة عوامل موضوعية أخرى تُضافُ إلى مسألة كفاءة الدبلوماسية الفلسطينية من عدمها، تتمثل في تزايد الصعوبات أمام قضية فلسطين، نتيجة التغيرات التي حصلت في الواقع العربي والإقليم، ما جعل الدول العربية أقلّ دعماً للفلسطينيين.

وتابع الخطيب "تاريخياً جهودنا وإنجازاتنا الدبلوماسية كانت مرتبطة جزئياً بالدعم العربي (..) ما يعني أن الدبلوماسية العربية عادة ما قدّمت الدعم للدبلوماسية الفلسطينية بطرق عديدة، وقد لعب ذلك دوراً مهماً لتحقيق الإنجازات، ولكن هذا تغيّر كثيراً".

ويضيف الخطيب عوامل ظرفية أخرى على الصعيد الدولي، أبرزها ما حصل في الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث اتخذت إدارتُه اتجاها دبلوماسيا مُعادِياً ونشطاً ضد الفلسطينيين.

ومع ذلك، شدد الخطيب أيضاً على أن العوامل الفلسطينية الذاتية قد حصل فيها "تراجع"، مضيفاً أن إدارة العملية الدبلوماسية من حيث عدم تغيير السفراء، والافتقار للمعايير المهنية في عملية اختيار الطواقم الدبلوماسية وموظفي سفاراتنا في الخارج، وكذلك ما يخص الترقيات والتعيينات، "كلُّها قد لعبت دوراً في حصول تراجع بدرجة معينة لدى الأداء الدبلوماسي".

في واقع الحال، فإن مثقفين عرباً يقيمون في دول غربية قد عبروا مراراً عن انتقادهم للسفارات الفلسطينية، كونها تكتفي بالخطاب العامّ الخالي من رواية كامل التفاصيل حول طبيعة الواقع الجيوسياسي في الأراضي الفلسطينية، وأنها تتكلم بخطاب، وكأن العرب والعجم يعرفون أدق التفاصيل.

 وعلٌّق الخطيب على هذه المسألة، قائلاً: "هنا يجب أن نشير إلى نوعين للدبلوماسية: الرسمية والعامّة".

الدبلوماسية تراجعت بعد أوسلو

وفيما يخص الدبلوماسية الشعبية "العامّة"، يرى الخطيب، أن هذا النوع يجب أن يخوض غماره ليس فقط المستوى الرسمي والسفارات، بل أيضاً المستويات الشعبية والتنظيمات السياسية والمنظمات غير الحكومية، فضلاً عن شخصيات فلسطينية ذات كفاءة إعلامية على الصعيد الشعبي.

وهنا، يقول الخطيب "إنه يوجد لدينا أيضاً نوع من القصور بهذا المجال"، وأحد الأسباب يكمن في التفكير الرسمي الفلسطيني، الذي يذهب كثيراً باتجاه التركيز على العلاقات الدبلوماسية الرسمية على حساب العلاقات مع الشعوب والنقابات والأحزاب والمؤسسات في دول العالم، أي أننا "نفشل في استهداف المستويات غير الرسمية أيضاً بالبلدان الأخرى".

وأضاف الخطيب: "باعتبار أننا حركة تحرر علينا أيضا أن نحافظ على علاقات مع المستويات الشعبية والجماهيرية والمؤسسات الأهلية في بلدان العالم المختلفة، حتى نؤثر على الرأي العام فيها، ثم يؤثر الأخير على قرارات حكومات بلاده لصالحنا".
اقرأ أيضا: رحلة إلى المجهول.. فتحات الجدار مصائد العمال الفلسطينيين

وبحسب الخطيب، تراجع الفلسطينيون على صعيد الدبلوماسية العامة بعد إنشاء السلطة الفلسطينية عام 1993، فركزت الأخيرة على الدبلوماسية الرسمية، وهو ما نتج عنه تراجع على مستوى علاقات الشعب الفلسطيني وقواه الشعبية المختلفة بالمستويات غير الرسمية سواء بالبلدان العربية أو الأجنبية.

ولعلّ الحاجة إلى مراجعة موضوعية للأداء الدبلوماسي الفلسطيني تفرضها المستجدات الأخيرة في المنطقة، والتطورات في العلاقات العربية-الإسرائيلية.

وبهذا الصدد، شدد الباحث السياسي الأردني الدكتور منذر حوارات في حديث لموقع "زوايا" على أن الواقع الجديد يتطلب من الجانب الفلسطيني طريقة جديدة في صنع الرواية التاريخية المُوجّهة للعرب، بشأن طبيعة الظلم الذي تعرض له الفلسطينيون، وذلك في ظل أكاذيب تمررها أوساط عربية لـ"شيطنة الفلسطينيين"، من أجل تبرير التطبيع مع إسرائيل، وهو ما يستوجب من الدبلوماسية الفلسطينية أن تستنفر جهودها في هذا السياق".

أين الفلسطينيون من الدبلوماسية الرقمية؟

وفق ما جاء في دراسة للباحث حسن الداودي، تحت عنوان "الدبلوماسية الرقمية بين وزارتي الخارجية والسفارات الفلسطينية في منطقتي أوروبا والدولة العربية"، فإن فلسطين احتلت المركز الـ85 عالميا، حسب تصنيف معهد "أكا" التركي عام 2017، الذي يستند في تصنيفه للدبلوماسية الرقمية على معايير الجهود الرقمية التي تبذلها وزارات الخارجية، ولقد تصدرت الولايات المتحدة التصنيف، وحلت دولة الاحتلال الإسرائيلي في المركز التاسع.

وفي حين يكرس الاحتلال دعمه للدبلوماسية الرقمية عبر تخصيص وزارة الشؤون الاستراتيجية والإعلام برئاسة جلعاد أردان لهذا الدور، تشير دراسة الداودي إلى أن التوصيات الموجهة لوزارة الخارجية الفلسطينية لتدشين قسم خاص يعنى بالدبلوماسية الرقمية "لم تر النور إلى الآن".

ويقول أستاذ العلاقات الدولية، د. غسان الخطيب "نحن لسنا في مكان متقدم بهذا المجال"، بيدَ أنه وجه العتب هنا ليس فقط إلى المستوى الرسمي في السلطة الفلسطينية ودبلوماسيتها الخارجية، بل أيضاً لا بُدّ من لوم الجهات غير الرسمية.

ويبرر ذلك بالقول: "أن الدبلوماسية الرقمية تتيح الفرصة للجميع، للمساهمة بأشكال منظمة وغير منظمة لتمرير الرواية الفلسطينية".

وبالنسبة للجهات الرسمية، طالب الخطيب بضرورة استثمار الدبلوماسية الرقمية بشكل أكبر كوسيلة لإيصال رسالتها لقطاعات واسعة من المجتمع الدولي، خصوصا الشباب الذي بات يصنع انطباعاته وآراءه حول مواضيع مختلفة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي.

وأما من الناحية الشعبية، فهناك تقصير لافت، وفق الخطيب، لاسيما وأنه يأمل ويتوقع أن تكون مبادرات أكثر بهذا الاتجاه، وبالرغم من وجود مُبادرات من هذا القبيل مثل "معهد الدبلوماسية العامة الفلسطيني" وهو مؤسسة غير رسمية أنشئت منذ بضعة سنوات، ومهمتها الأساسية وشبه الوحيدة هي الدبلوماسية الرقمية، وتنشط بشكل خاص في أمريكا وبعض الدول الأوروبية.

وسعى هذا المعهد مؤخرا للنشاط في البلدان العربية، خاصة بعد التطورات الأخيرة في تطبيع دول عربية مع الاحتلال، والحاجة أكثر لتوضيح الموقف والرأي والصورة حول القضايا الفلسطينية للمجتمعات العربية وخاصة الخليجية منها.

لكنّ الدور الذي يقوم به المعهد المذكور يبقى بمثابة مبادرة محدودة ولا تكفي، بمنظور الخطيب، ويقول: "من الأهمية بمكان أن ينشط الشباب الفلسطيني فُرادى ومجموعات مُنظّمة، للمساهمة بمجال الدبلوماسية الرقمية لصالح القضية".

وتُبدي أوساط شعبية فلسطينية نقدها لطريقة إدارة الصفحات الرسمية الخاصة بمسؤولين فلسطينيين أو وزارات ومؤسسات رسمية في موقع فيسبوك أو تويتر، معتبرة أنه يغلب على هذه الصفحات الطابع التقليدي أو التمجيدي التنظيري لفئة أو شخص، ما يجعلها غير قادرة على مواجهة الماكينة الدعائية التي تبثها صفحات إسرائيلية رسمية ممولة بملايين الدولارات، للنيل من الوعي الجمعي العربي وتضليل الحقيقة.

الانقسام أضرّ بالدبلوماسية الفلسطينية

بدوره، أكد الكاتب الصحفي داود كُتّاب أنه لا يُحبّذ وصف الأداء الدبلوماسي الفلسطيني بـ"السيئ تماماً"؛ خاصة وأن "دبلوماسيتنا" تأثرت بالانقسام الداخلي كثيراً، وبالتالي لا تتحمل الدبلوماسية الفلسطينية وحدها وزر الخلل.

وأعرب كُتّاب لموقع "زوايا" عن أمله بأن تجري الانتخابات وينتهي الإنقسام، وهو ما يفك العقدة أمام الجهد الدبلوماسي الفلسطيني، من خلال عمل مشترك فيما بين سفارات فلسطين في الخارج والمُناصرين وحتى المغتربين الفلسطينيين المقيمين في الخارج.

وتابع كُتّاب "هناك مخزن من التأييد الكبير لم نستثمره (..) وأنا لا أريد إدانة الدبلوماسية الفلسطينية نفسها، ذلك أنها مقيدة بمسارات ترسمها القيادة لها، وبالتالي لا يُمكن لومها على أخطاء القيادات وانقساماتهم".

مع ذلك، يُقر داود كُتّاب أن هناك أخطاء إدارية لدى الدبلوماسية الفلسطينية ناتجة عن طريقة التعيينات غير النزيهة، والأداء غير المُنظّم.

لكن كُتّاب يعود ويقول إنه رغم "بعض هذه الأخطاء"، بالمجمل هناك أداء جيد للدبلوماسية الفلسطينية، إلا أنه متأثر جداً بالانقسام.

المصدر : رام الله- أدهم مناصرة

مواضيع ذات صلة

atyaf logo