تقرير زواج الفتاة دون 18 عاما.. عادة مجتمعية تتجاوز القانون

الزواج المبكر
الزواج المبكر

أثيرت زوبعة قبل أشهر في فلسطين حول قانون تحديد سن زواج الفتيات، بين مؤيد ومعارض، كل يسوق أدلته وقرائنه، كي يثبت للمجتمع وللطرف الآخر أنه الأصوب، فما طبيعة الخلاف بين مطلقي مصطلح "الزواج مبكر" ورافضي "زواج قاصرات"؟ وما الأسباب التي تدفع الأسر الفلسطينية إلى تزويج فتياتهم دون سن الـ18؟ وهل يكفي تحديد سن الزواج لوضع الأسر على قاطرة الاستقرار؟

قبل أن نجيب على هذه الأسئلة المتنوعة، يمكن القول إن أي خلاف مجتمعي بحاجة لمرجعية قانونية يصطدم بالقوانين المتشعبة والمختلفة، في ظل ما تشهده الساحة القانونية الفلسطينية من تعدد القوانين الحاكمة حتى الآن، بين القانون الأردني، والمصري، والعثماني ما قبل الانتداب البريطاني، والتي تغير بعضها منذ مجيء السلطة الفلسطينية أوائل التسعينيات، لكن البعض الآخر يشهد قصورا واضحا في إنصاف النساء حتى الآن.

في الأراضي الفلسطينية تم تحديد سن الزواج للفتيات بخمس عشرة سنة قمرية، أي ما يعادل أربع عشرة سنة وسبعة أشهر وواحد وعشرين يوما بالتقويم الميلادي، لكن منذ أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس مرسوما يقضي برفع سن الزواج إلى ثمانية عشر عاما للفتيات في نهاية عام 2019، ثارت جهات مجتمعية وعشائرية مطالبة بوقف تنفيذ القانون.

واعتبرت هذه الجهات القرار أنه امتداد تطبيق فعلي لتوقيع فلسطين على اتفاقية سيداو عام 2014، دون تحفظات، تلك الاتفاقية الأممية التي تنص على منع أشكال العنف والتمييز ضد المرأة، واعتبرتها جهات عدة مخالفة للقانون الفلسطيني والشريعة الإسلامية في كثير من بنودها.

فلسطين من الأعلى عربيا

لم يأت قرار عباس وليد اللحظة، بل بعد جهود كبيرة ومطالبات حثيثة من الهيئات النسوية برفع سن الزواج، وفق ما تراه الحركات النسوية، بينما يقول الواقع الاقتصادي والتعليمي أمرا آخر فزيادة معدلات البطالة وتردي الوضع الاقتصادي يقلل بشكل عام من حالات الزواج، بالإضافة إلى اتجاه كثير من الفتيات إلى التعليم الجامعي (يشكلن 60 بالمئة من إجمالي الملتحقين بالجامعات)، في حين تزيد احتمالية الزواج المبكر للفتيات في الأسر الأشد فقرا.

تعطي الإحصائيات دلائل مختلفة عن الزواج المبكر في فلسطين عموما، إذ ترتفع في أعوام وتقل في أخرى، فبينما كانت النسبة عام 1997 للذكور 23.0 بالمئة، ارتفعت عام 2011 لتصل 24.6 بالمئة، أما بالنسبة للإناث فارتفعت النسبة من 18 بالمئة عام 1997 لتصل إلى 20 بالمئة في عام 2012.
اقرأ أيضا: المطلقات.. مشي عسير على حافة “نظرة المجتمع”

وفي مقارنة أخرى انخفضت النسبة عام 2018 لعدد الإناث اللواتي عقد قرانهن مبكرا إلى 20 بالمئة مقارنة بعام 2010 حيث كانت النسبة 24 بالمئة.

 بشكل عام تدلل النسب سواء ارتفعت أو انخفضت أن فلسطين لديها نسبة عالية من الزواج المبكر أكثر من جاراتها في الدول العربية، التي قد يصل فيها متوسط سن الزواج ما بين الخامسة والعشرين والثلاثين من العمر.

قرار رفع سن الزواج لم يمر بدون إثارة جدل لدى كثير من الفعاليات والهيئات الشعبية في الضفة المحتلة وقطاع غزة على وجه الخصوص.

الجدل المجتمعي

جاء الجدل حول القرار مجتمعيا، فقد رأى الأطباء أن القرار في صالح الفتيات، إذ يمنحهن الوقت الكافي لتهيئتهن الجسدية والنفسية للزواج والحمل والولادة، وتحمل كل الأعباء الصحية المترتبة على ذلك.

 وأيده قانونيون كذلك، لما يعطيه من مساحة للتعرف على الزواج، ومتطلباته لكل من الشاب والفتاة، وإسهامه في التقليل من نسب الطلاق، خاصة بين الأزواج الجدد، والطلاق في فترة الخطبة، في حين اعترضت نقابة المحامين في بيان لها على أي قرار يخالف النصوص الشرعية والقوانين الفلسطينية المتماشية معها.

أما الاعتراض الأكبر جاء من الجهات العشائرية وحزب التحرير في الضفة المحتلة، إذ اعتبروا القرار وما دعا له جراء التوقيع على اتفاقية سيداو، معارضين ما تضمنته الاتفاقية من مخالفات للشريعة الإسلامية، ونادوا بالتراجع عن القرار، بل وإغلاق المؤسسات النسوية الداعمة لذلك.

لم يكن ذلك الاعتراض الوحيد، وإن لم يكن بالشدة نفسها، فالمرجعيات الشرعية لم تعط رأيا واحدا حول القرار، فبينما اعتبره محمد حسين مفتي الديار الفلسطينية "متوافقا مع الشريعة"، والتي تتيح للحاكم تحديد بعض المباحات بالإضافة لوجود استثناءات تتيح للجهات المختصة إمضاء بعض العقود التي يقل فيها العمر عن السن المنصوص في القرار الجديد. نجد بعض الآراء التي تعتبر أن سن البلوغ هو سن التكليف الشرعي، وتحديده بسن معين فيه تعنت، وقد يضر أكثر مما ينفع لاختلاف الأحوال الشخصية بين الناس.

وسط تلك الآراء المتخوفة من رفع سن الزواج، ترى الدكتورة شيماء أبو شعبان، المحاضرة الجامعية في مجال علم النفس التربوي، أن القرار كان لا بد من وجوده فعليا لصالح الفتيات، فطبيعة المجتمع الآن تختلف عن العادات السابقة، خاصة مع تعقد متطلبات المعيشة النفسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي تحتاج إلى وعي أكبر من الفتيات، ليتمكن من تسيير البيوت بشكل سليم، وتنشئة أطفالهن بطريقة واعية تضمن صحتهم النفسية والبدنية.

وتقول أبو شعبان لموقع "زوايا": "الآثار السلبية تكثر في حالات الزواج المبكر، وتحميل الفتاة عبء الزواج أقل من ثمانية عشر عاما يؤثر على استقرار الأسرة، بل ربما تخجل الفتاة من عرض مشكلاتها أيا كانت حتى لا تعرض نفسها لسخرية الأخريات، فتبقى المشكلات دون حل وتتفاقم بشكل يهدد الأسرة".

وتضيف أبو شعبان: "الفتاة قبل ثمانية عشر عاما بحاجة لاستكشاف نفسها وحياتها ومعرفة توجهها وميولها، لذا لا بد من منحها الوقت الكافي لذلك قبل تحميلها عبء أسرة وأشخاص آخرين".

خلاف المفاهيم

وهنا يمكننا العودة لبحث الخلاف حول المفهوم بحد ذاته، فبينما لا توجد عبارات متفقة على تحديد الأمر الذي يجب أن يمنع تحديدا، هل هو زواج القاصرات، أم هو الزواج المبكر؟ وما مفهوم كل منهما؟ وكيف يمكن أن يؤثر على القرارات فيما بعد.

نجد أن المطالبات المستندة إلى القوانين الدولية تحدد الطفل أو القاصر بمن هم دون ثمانية عشر عاما للذكر والأنثى على حد سواء، ولكن المطالبة غالبا برفع سن الزواج للفتيات بالحد الأدنى حتى ثمانية عشر عاما تأتي على اعتبار أن الشاب لا بد وأن يكون أكبر منها، كما هو متعارف عليه مجتمعيا عند الزواج.

 في المقابل، يرى من يستندون للرأي الشرعي أن الإنسان لا يعد قاصرا بعد البلوغ، وهو غالبا ما بين أحد عشر وأربعة عشر عاما، حسب ما يلاحظ في مجتمعنا، لذا كان تحديد السن القانوني للزواج كما ذكرناه سابقا بخمسة عشر سنة قمرية للفتاة على اعتبار أنها صارت بالغة، وقادرة على تحمل التكاليف المجتمعية كما التكاليف الشرعية.

اقرأ أيضا: سوء تغذية أطفال غزة.. ارتفاع الأعداد ومخاطر الإصابة بكورونا

أما الزواج المبكر ففيه اختلافات كبيرة تشمل في معانيها زواج القصر دون ثمانية عشر عاما، بجانب دلالات أوسع للسن حسب المجتمعات، بعضها يكون حتى أكبر من الثامنة عشرة، ويرفعه إلى سن التخرج من الجامعة في الثانية أو الثالثة والعشرين.

لكن الحقيقة أن الأمر لا يمكن حسمه بشكل عام، نظرا لاختلافات الأفراد والإمكانيات البدنية والمقدرة النفسية والمادية، التي يمكنها أن تعين أو تعيق الزواج في أي سن، ففي دراسات أكاديمية وثقت بعض الآراء نجد أن الشابات والشبان اختلفوا حول السن الأنسب الذي يرونه مناسبا للزواج، لكن في المتوسط كان للفتاة ما بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين، بينما كان أكبر من ذلك بقليل للشباب، ولم يمنع الأمر أن يرى البعض أن الفتاة مؤهلة للزواج منذ الرابعة عشر من عمرها.

أين يكمن الحل؟

وبالتالي، يكون مرجع الأمر إلى طبيعة البيئة المجتمعية، وسيادة عادات معينة، ودرجة وعي الإنسان تجاهها، كما تصبح الظروف الاقتصادية أكثر تسلطا على رقاب الفتيان والفتيات. فبينما يكون الرفاه المادي غالبا هو الداعي لزواج الفتيان أقل من ثمانية عشر عاما في بعض الأسر، أو كون الفتى وحيد والديه، أو الحاجة لوجود "العزوة" كما في أعراف البوادي والقرى، نجد أن الوضع الاقتصادي السيئ هو الدافع الأكبر لتزويج الفتيات أقل من ثمانية عشر عاما، بل حتى في حدود الرابعة عشر والخامسة عشر، ما يترافق غالبا مع إخراج الفتاة من التعليم قبل إنهاء الثانوية العامة، وهو ما يجعل كثيرين يدفعون نحو المطالبة بتشديد القوانين التي تسمح بتزويج الفتيات قبل ذلك السن.

وفي هذا السياق، تؤكد أبو شعبان موافقتها على قرار تحديد سن الزواج فوق 18 عاما، حتى تحظى الفتاة بإكمال الحد الأدنى من تعليمها على الأقل وتحصل على الثانوية العامة.

وقالت: "لا يجب أن يدفع الفقر بعض الأسر لتزويج الفتيات قبل أن يكملن تعليمهن الثانوي على الأقل، فهذا لا يحل المشكلة، إذ تنتقل أغلب الفتيات من فقر الأهل إلى فقر الزوج ومشكلاته الاقتصادية، وبدلا من أن تتلقى الدعم من أهلها تعاني مع أبنائها مشكلات أخرى في أسرة الزوج، ولكن عندما تحصل على تعليم جيد يمكنها المساهمة بطريقة ما فيما بعد في تحسين الوضع الاقتصادي للأسرة".

وتؤكد على أن الفتاة في هذا السن (أقل من 18 عاما) بحاجة إلى الاحتواء وتفهم المشاعر من أهلها أكثر من حاجاتها المادية، لذا دور الأسرة ليس فقط تلبية المتطلبات المادية، بقدر ما هو إشباع الحاجات النفسية للفتاة، لتكون مؤهلة نفسيا ومعنويا لتحمل العبء بدورها وتنشئة أسرة سليمة وصالحة في المستقبل.

ويبقى التساؤل هل يكمن الحل في سَنِ قانون يرفع أو يحدد سِنَ الزواج فقط، أم يجب النظر إلى الأمر بشكل أوسع يشمل الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، وزيادة الفعاليات الثقافية التي ترفع من مستوى الوعي بشكل عام بمؤسسة الزواج، وتعين كلا من الشاب والفتاة على رؤية المستقبل الزوجي بطريقة أكثر نضجا، وتمكنهم من إدارة الحياة بطريقة تعينهم وتقلل فعلا من نسب المشكلات الأسرية والطلاق؟

المصدر : خاص زوايا- دعاء عمار

مواضيع ذات صلة

atyaf logo