السيناريوهات المتوقعة للقضية الفلسطينية عام 2021

بقلم: د. غازي حمد


بسبب الغيوم السياسية -غير الممطرة- في الشرق الأوسط، وبسبب الرياح العاتية والمعاكسة لتطلعات الشعوب العربية، فان التنبؤ بحدوث تغيرات جوهرية تكاد تكون بعيدة جدا، ورغم ذلك فإن حدوث مفاجآت سياسية غير متوقعة قائم. بعد انصراف ترامب من البيت الأبيض ودخول الديمقراطيين، وبعد المصالحة السعودية القطرية ودوران عجلة الانتخابات الفلسطينية، فإن فرص حدوث تحولات في المنطقة وارد، لكن نتائجها غير مضمونة.


 الحالة السياسية الفلسطينية لا تزال للآن معقدة إلى درجة كبيرة لأسباب متعددة، ولا تزال إسرائيل تمثل التحدي الأكبر للشرق الأوسط في فرض احتلالها على الأراضي الفلسطينية وفي استمرار عدوانها على لبنان والعراق وسوريا، وفي تصدرها للقوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، ولا يوجد ما يمكن أن يصدر أو يوقف هذه القوة الغاشمة.




  • مؤشرات غير مشجعة


 يمكن توصيف هذه التغيرات، حتى هذه اللحظة، أنها ليست في صالح القضية الفلسطينية، ولا تشكل أي تهديد مباشر أو غير مباشر لدولة الاحتلال. فالدول العربية تمزقت أواصرها بين النزاعات المحتدمة والمصالح المتعارضة وبين قدراتها السياسية والعسكرية التي تراجعت إلى حد كبير، ولم تعد تؤثر كثيرا في موازين القوى في المنطقة. فضلا عن أن الدول العربية لم تعد تضع القضية الفلسطينية في بؤرة اهتمامها، اللهم إلا في البيانات والتصريحات، خاصة بعد أن تهافت عدد منها للتطبيع مع إسرائيل، وآخر متردد في الإقدام على هذه الخطوة، وثالث ينتظر الفرصة المناسبة للخروج من الشرنقة العربية والجهر بالتطبيع مع الاحتلال.


 إيران، التي تعتبر أحد المكونات الرئيسة في منطقة الشرق الأوسط وعنصر أساسي في الصراع مع الاحتلال، تعرضت إلى هزات سياسية وأمنية كبيرة خلال العامين الماضيين، فقد تم اغتيال أركان رئيسة في النظام الإيراني، وتعرض ملفها النووي إلى النهب كما تعرض مناصروها وحلفاؤها في العراق وسوريا ولبنان إلى القصف الإسرائيلي المستمر، كما أن الولايات المتحدة وضعت إيران تحت ضغط الحصار والعقوبات الاقتصادية، مما أثر على قدراتها بشكل كبير.


أما تركيا، التي تمثل قوة سياسية واقتصادية في  الشرق الأوسط، فإنها تحاول الخروج من محاصرتها سياسيا واقتصاديا ومن دفعها في الوقوع في وحل الشرق الأوسط  إلى أن تبقى قوة رئيسة في المنطقة. تركيا تجتهد للحفاظ على التوازن قدر الإمكان من خلال دفع التهديدات على حدودها الجنوبية، ومن خلال صد السياسات الأمريكية التي تريد إنهاكها اقتصاديا، ومن خلال تعزيز قدرتها الاقتصادية والبحث عن بدائل جيدة في المنطقة.


ما بين تفكك الجامعة العربية بنظامها وميثاقها وشعاراتها، وبين وضع إيران تحت الضغوط السياسية والاقتصادية، وما بين انشغال تركيا في الحفاظ على قوتها ونفوذها، وبين استمرار حالة الانقسام الفلسطيني وفشل مسيرة التسوية السياسية، تبرز الصورة الواضحة لمستقبل الصراع ورسم خارطة الشرق الأوسط الجديد بشكل فعلي وحقيقي.


وبرز العامل الجديد وهو فوز بايدن بسدة الحكم في البيت الأبيض، وهو بلا شك سيكون له تأثيره على  المنطقة وعلى طبيعة الصراع، لكنه لن يكون حاسما ولا صانعا لتغييرات حقيقية، بل ربما يقود إلى تعزيز الوجود الأمريكي مع احتفاظ إسرائيل بالميزات التي حصدتها في عهد ترامب، والبناء عليها في تطوير علاقاتها السياسية مع الدول العربية.




  • سيناريوهات ثلاث


من الواضح أن هذه  التغيرات والتقلبات ستقود إلى عدة سيناريوهات:




  • بقاء الحال ما هو عليه: بمعنى أنه لا تغيير جذري في المواقف العربية أو الأمريكية، وبقاء الحالة الفلسطينية في المربع الرمادي القائم على الانتظار، وعدم وجود عوامل مشجعة لتحرك سياسي جاد. ما يعزز هذا السيناريو هو الشرخ الكبير الذي أصاب الحالة العربية وتجذر حالة التناقض العربي جراء التطبيع مع دولة الاحتلال، كما أن الإدارة الأمريكية الجديدة لن تمارس أي ضغوط على الدول العربية، خصوصا في المجال السياسي أو مجال حقوق الإنسان.


هذا السيناريو  مريح جدا لإسرائيل ولا يملي عليها أي التزامات إضافية، فضلا عن أنه يمنحها فرصة جيدة للاستمرار في استكمال مشاريعها الاحتلالية في الأراضي الفلسطينية دون تهديدات ودون ضغوط. كما أن الفلسطينيين أنفسهم قد ينشغلون بانتخابات داخلية ستسرق منهم على الأقل عامين أو ثلاثة –إن جرت الأمور بشكل طبيعي– في ترتيب مؤسساتهم وأوضاعهم الداخلية. هذا السيناريو يعني بالضرورة تراجع كبير في القضية الفلسطينية وتآكلها في مختلف جوانبها. ولأن الفلسطينيين هم العمود الفقري للتحولات السياسية في المنطقة، فإنهم إن لم يخرجوا من شرنقة الدوران في الذات، والبحث عن حلول إستراتيجية ذات جدوى، فإنهم سيكونون الضحية الرئيسة لهذه التغيرات السلبية.




  • السيناريو الثاني:


يقوم هذا السيناريو على حدوث تغيرات محدودة في الحالة الفلسطينية والعربية والدولية، وإن كان لا يوجد حتى الآن ما يؤشر على إمكانية وقوعها. إذا ما تطورت الأمور بشأن إنهاء الانقسام وتعزيز مواطن القوة الفلسطينية من حيث التوافق على برنامج سياسي مشترك، وإعادة تأهيل المؤسسات الفلسطينية فهذه بلا شك ستعزز موقف الفلسطينيين في الخارطة السياسية، وستمنحهم قوة أكبر في التأثير على مجريات الأحداث، وقد تشكل حالة ضغط على الأنظمة العربية لتغيير سياساتها تجاه إسرائيل، فضلا عن الضغط على إسرائيل نفسها لتقديم تنازلات حقيقية. لكن ما يزرع الشك في إمكانية حدوث هذا التطور المهم هو أن الفلسطينيين ذاهبون باتجاه انتخابات (تشريعية-رئاسية) محدودة السقف السياسي لا تستطيع تجاوز مرحلة أوسلو، ما يعني بقاء الحالة السياسية على ما هي عليه في مربعها الرمادي المجهول، الذي لم تستطع الخروج منه طوال ربع قرن.


الإدارة الأمريكية بقيادة بايدن إذا ما عملت على إعادة التوازن في المنطقة والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وفرض قيود على سياسات إسرائيل التوسعية، وتجديد المفاوضات السياسية، وإعادة نسج العلاقة مع السلطة الفلسطينية، فإن هذا سيكون له أثره في إحداث حراك سياسي بطيء وغير مضمون النتائج  في ضخ الدم في عروق مسيرة التسوية السياسية. غير أن هذا بلا شك لن يتجاوز المحددات الرئيسة للبيت الأبيض في الحفاظ على تفوق إسرائيل عسكريا وأمنيا واقتصاديا .هذا السيناريو سيكون طويلا وبطيئا وذو نتائج محدودة، وربما لن يزيد كثيرا عن السيناريو الأول.


هذا السيناريو سيكون طويلا ومملا للفلسطينيين، ولن يجدوا فيهم ضالتهم في فتح طريق لتجاوز حالة الجمود السياسي، وهذا سينعكس سلبا على تحقيق إنجازات فعلية على الأرض.




  • السيناريو الثالث


ربما يكون هذا السيناريو أقرب للتخيلات والطوباوية السياسية، لكن لا أحد يستبعد أن تحدث تغييرات دراماتكية في المنطقة على غرار الربيع العربي، أو حدوث تقلبات في التحالفات السياسية في المنطقة، أو حدوث مفاجآت غير متوقعة. إن منطقة الشرق الأوسط، التي تعيش على رمال سياسية متحركة،  لم تتعاف للآن من آثار الصراعات والحروب التي تجري في سوريا واليمن وليبيا، ومن زعزعة وضعف الأنظمة العربية خاصة الرئيسة منها، وواضح أن التطبيع سيكون له آثاره الكبيرة والممتدة على المواقف العربية، وسيخلق خارطة سياسية مختلفة تتغلب فيها مصالح الدول الخاصة على قضايا الأمة بشكل عام.


إن هذا الواقع السلبي والمحبط سيخلق حالة من الرفض والغضب لدى أوساط كثيرة، وربما يضاف إلى تراجع القوة الاقتصادية ومستوى المعيشة في العديد من الدول، فضلا عن وجود رفض كبير لدى الأوساط غير الرسمية للتطبيع مع الاحتلال وقبولها في المنطقة كدولة لها سيادتها ونفوذها. هذه العوامل ستؤثر بشكل كبير على استقرار الحالة السياسية وربما تولد ردود فعل  غير محسوبة.


الدول الرئيسة في المنطقة مثل مصر والسعودية والأردن وسوريا لا تتضح فيها معالم تغيير في توجهاتها السياسية والإقليمية، ومن هنا تستغل إسرائيل حالة الركود السياسي العربي في التحرك في المناطق الرخوة، لكنها تشكل عاملا مهما على تغيير الخارطة السياسية العربية. الخطورة أن إسرائيل تبحث عن تطبيع علاقتها مع الدول العربية وفي نفس الوقت تسعى إلى اضعافها من خلال محاور عدة، ومن بينها تشجيع إثيوبيا على المضي في بناء السد لتهديد الاقتصاد المصري، ومنها معارضتها لتسليح أي دولة عربية بأسلحة ثقيلة وغيرها، فضلا عن حالة التهديد التي تمثلها بشكل يومي خاصة في سوريا ولبنان والنفوذ الإيراني فيهما.


الخطة الأكبر أن إسرائيل سوف تستثمر تطبيع علاقاتها مع الدول العربية في الهدف الرئيس في إماتة وتصفية القضية الفلسطينية، وفي صرف المجتمع الدولي عن اعتبار القضية الفلسطينية مهددة للاستقرار في الشرق الأوسط، وستحاول تركيز كل الجهود الدولية على الملف النووي الإيراني، باعتباره العدو والمهدد الرئيس لمنطقة الشرق الأوسط.




  • استمرار حالة الركود


إن المرحلة القادمة ستشهد إما استمرارا لحالة الركود السياسي، وإما تحركات سياسية بطيئة ليست ذات جدوى، وفي كلا الحالتين فإن القضية الفلسطينية ستكون الخاسر الأكبر إن لم يتم تدارك ذلك من خلال عمل استثنائي وخارج عن النص التقليدي. وهذا يملي على الفلسطينيين أن يتحركوا بسرعة من أجل وقف آثار التطبيع مع إسرائيل، والنهوض بقضيتهم في المحافل العربية والدولية،  وإعادة تصويب اتجاه البوصلة إلى القضية الفلسطينية.


لا يمكن التنبؤ بشكل جازم أو الركون على المعطيات القائمة أو التعويل على تغييرات حقيقية في المواقف الدولية، ومن هنا تتجلى المسؤولية الكبيرة في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية من خلال عمل منظم ودؤوب يقوم على ركنين مهمين، الأول: توحيد الجهود الوطنية في إطار واحد، والثاني العمل على بناء إستراتيجية واضحة ومفصلة يكون عمودها الفقري التحرير، وليس بناء أجسام هشة تحت الاحتلال.

مواضيع ذات صلة

atyaf logo