لماذا التجديد الديني ضرورة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من التأكيد على أن فكرة التجديد الديني لا تعني أبداً الإتيان بدين جديد، ولا إلغاء الدين المنزل من الله سبحانه وتعالى، إنما إعادة فهمه في ضوء معطيات العصر، دون التخلي عن أصوله، فهي عملية تتسم بالأصالة من حيث الحفاظ على جوهر الدين، ومقاصده، لكنها أيضاً تتسم بالحداثة، لأنها لا تتجاهل معطيات العصر، وإضافات الأجيال، هذا من جهة، وأما من جهة ثانية، فإن التجديد الديني يحتاج إلى تخليص الدين من إضافات التاريخ، باعتبار التاريخ فعلاً بشرياً، لا يتصف بالقدرة على تجاوز المكان، والزمان، وإنما في أحسن أحواله لا يتجاوز -في شقه الديني- مجرد محاولات بشرية لفهم الدين، وهي محاولات بطبيعتها محكومة بمعطيات الزمان، والمكان، كون العقل البشري المنتح لهذه المحاولات لا يمكنه ولا بأي حال من الأحوال أن يكون متجرداً من تأثير المكان، والزمان، ما يعني بالضرورة أنها نتاجات -أحسن ما يقال فيها- تاريخية، تصلح لبيئتها، وللحظتها، لكنها لن تكون صالحة لكل زمان، ومكان، وهذا بخلاف الدين المنزل، والذي نؤمن يقيناً أن الله سبحانه وتعالى وهبه القدرة على التمدد المكاني، والزماني، ليس بالضرورة بذات الأدوات، والوسائل التي استخدمها النص ذاته، وإنما بمقاصده، وغاياته الأساسية، التي نزل الدين لأجلها.


الفكرة إذن لا يجب أن تكون مثيرة للقلق، إنما العكس هو الصحيح، وهذا ينقلنا إلى الإجابة على السؤال الأساسي لهذه المقدمة: لماذا التجديد الديني ضرورة؟


من المعلوم أن النص القرآني تنزل في بيئة لم تعد تشبه بيئتنا المعاصرة، وأن الكثير من المستجدات الإنسانية قد طرأت على حركة الاجتماع الإنساني، فبيئتنا اليوم ليست هي ذاتها بيئة لحظة النزول، ومعارفنا لم تعد تقتصر على معارف تلك اللحظة التاريخية، التي يمكن وصفها بالغارقة في القدم، ولأن القرآن الكريم آخر الكتب السماوية، والنبي محمد عليه السلام هو "خاتم النبيين" فلا أنبياء جدد، ولا كتب سماوية جديدة، فإننا نؤمن بأن الله سبحانه وهب كتابه القدرة على التمدد المكاني، والزماني، حتى وإن استخدم أدوات، ووسائل، ومعارف لحظة النزول، لكنه استخدمها بألفاظ، وعبارات يمكن وصفها بالمرنة، القابلة لإعادة الفهم، حيث يمكن لمعاصري لحظة النزول فهمها بالمتوفر من معارف لحظتهم، كما يمكن إعادة فهمها كلما زادت معارف الناس، وتطورات أدواتهم.


هذا يعني أن إعادة الفهم، أو تجديده، مسألة متواصلة، ومتجددة، ولا يمكن وقفها، وإلا فإن قدرتنا على التفاعل مع مستجدات العصر سيكون محكوماً عليها بالفشل، ولعل هذا جزء من تفسير واقع المسلمين اليوم، فبينما تواصل حركة الاجتماع الإنساني تقدمها إلى الأمام، لا يزال العقل الإسلامي متمترساً عند فهم لحظة زمنية غارقة في القدم، تجاوزها الزمن، فصار حال المسلمين كمن يعيش بعقله في زمن غابر، بينما يتنفس هواء لحظته المعاصرة، ففقد بهذه الازدواجية تاريخه، وواقعه، فهو لا يعيش في التاريخ، لأنه بجسده موجود هنا، وفي هذه اللحظة المعاصرة، لكنه أيضاً لا يعيش اللحظة المعاصرة، لأن عقله هناك في التاريخ..!


لقد فرض الواقع أسئلته على الحياة الإنسانية، وما عادت إجاباتنا القديمة صالحة لأسئلة اللحظة، وبالتالي لا بد وأن نقدم إجاباتنا على نحو يمكننا من اللحاق بحركة الحضارة المعاصرة، فنحن نحتاج مثلاً إلى حل جذري لمشكلة النظام السياسي، الذي لا يزال محل جدل في أوساط المتدينين، كما نحتاج إلى كلمة فصل حول الديمقراطية، والتنوع الديني، والعرقي، وحقوق الإنسان، وقضايا المرأة، وغيرها من القضايا، التي لم يعد من الممكن تجاهلها، ولعل أبرز ما نحتاجه أيضاً هو التمييز بين الديني، والدنيوي، وتحديد مساحات تدخل رجال الدين، والذين كانوا فيما مضى يستحوذون على مساحة واسعة في حياة الناس، ربما لأن حياة السابقين كانت تخلو من المؤسسات الحقيقية التي من شأنها تقنين الحياة الإنسانية، بخلاف لحظتنا المعاصرة، والتي حلت فيها المؤسسة مكان الأفراد، وتوسعت فيها مرافق الدولة، ومجالات حركة الاجتماع الإنساني، بما لا يسمح ببقاء ذات المساحة القديمة في أيدي رجال الدين.


التجديد الديني ضرورة إذن، لا يمكن تجاهلها، وإلا فإن حالة من الشلل ستصيب عصب حياتنا، خاصة وأن الدين لا يزال أحد أهم مكونات ثقافتنا العربية، والإسلامية، وإذا ما واصلنا رضاعة ذات المقولات، والمفاهيم القديمة، لتغذية ثقافتنا المعاصرة، فإننا سنحكم على مستقبلنا بالفشل، كونه مستقبل مكبل بمفاهيم تاريخية لم تعد ملائمة، ولا قادرة على تلبية حاجاته.

مواضيع ذات صلة

atyaf logo