إبرة الحل في كومة القش الفلسطيني!!

بقلم: د. غازي حمد




  • حالة التيه


الحالة الفلسطينية لا تحتاج إلى كثير من التفصيل والتشخيص. الكل يعيش حالة من الصدمة والحيرة والتيه وعدم القدرة على إيجاد مخرج لحالة التيه، التي عمت كل جوانب الحياة الفلسطينية.


الكل -قوى وفصائل وأشخاص- يسأل عن المخرج.


منهم من (ينبش) عن وسائل قديمة عفا عليها الزمن، ومنهم من يدور حول نفسه في ذات المخارج، التي تم تجريبها وثبت فشلها، ومنهم من غلب عليه اليأس من إيجاد مخرج، ولا يعرف أين يذهب وإلى أين يتجه.


تكمن صعوبة العثور على (إبرة) الحل في كومة (قش) المشاكل والتحديات الكبيرة، التي تعصف بالقضية الفلسطينية في كثرة تراكمها وتعقيدها وطول الأمد عليها حتى قست وتصلبت، وفي أن الرهانات إنما كانت على خيول عرجاء!!


ولأن الذين راهنوا على حلول ومخارج طوال عقود من الزمن ولم ينجحوا، عاندوا وكابروا أن طريقهم ستؤدي إلى نهاية سعيدة من إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة. هؤلاء سرقوا زمنا كبيرا من عمر القضية الفلسطينية في محاولات يائسة وتجارب فاشلة ومغامرات غير مدروسة، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تشتت وضعف وتيه وتغول للاحتلال على كل ما نملك من أسباب القوة.


إن التجربة التي خاضتها حركة فتح طوال ربع قرن من العمل السياسي والبحث عن حل نهائي، أو حتى مرحلي، لم تؤت ثمارها، بل أفضت إلى واقع أكثر تعقيدا وأشد صعوبة مما كان عليه من قبل، واستغلت إسرائيل عملية السلام -الوهمية- كغطاء من أجل تمرير كل مخططاتها الاحتلالية والتوسعية وتجاهل الحقوق الوطنية، وغيرت الكثير من المعالم الجغرافية والسياسية حتى أصبحت أمرا واقعا.


للأسف إن حركة فتح اعتمدت سياسة الانتظار والتحلي بالصبر (الاستراتيجي)، والتعويل على المواقف الدولية الهزيلة، وقرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، ومنت نفسها أنها ستمثل ضغطا على الاحتلال وإرغامه على تغيير مواقفه. لكن ما جرى هو العكس تماما. لماذا؟ إن العالم اليوم لا يحترم إلا القوي، وإسرائيل استطاعت أن تجرد السلطة من كل عوامل قوتها -سواء الذاتية او الموضوعية- وحصرتها في قضايا جزئية هامشية، مثل الحياة المعيشية وتحصيل أموال المقاصة، وسحبت كل الصلاحيات السيادية والأمنية منها، حتى باتت مجرد (موظف) كما قال العديد من قيادات السلطة. بل إن السلطة -نفسها- حاربت عوامل القوة لديها من خلال الضغط على مجموعات المقاومة، ومنعتها من تنفيذ أي عمل مسلح ضد الاحتلال، وبالتالي لم يعد هناك ما يهدده.




  • عُقَدُ إسرائيل الكبرى


إن إسرائيل تعيش تحت عقدتين كبرتين تلازمانها دوما، الأولى: عقدة الشرعية، حيث تبحث عن أي بلد أو حتى هيئات وأشخاص من أجل أن يعترفوا بها، والثانية: عقدة الأمن، والتي تعتبرها إسرائيل تحديها الأكبر في إثبات ذاتها، وقوتها وتفوقها في المنطقة.


لذلك إن من يريد ممارسة ضغط حقيقي على الاحتلال، وإرغامه على تقديم تنازل، لابد أن يلعب على هذين الوترين.


الرئيس أبو مازن ارتكب خطيئة كبيرة حينما أوصل رسائل مباشرة ومتكررة لدولة الاحتلال أنه يرفض المقاومة والعنف ويرفض استخدام السلاح تحت أي مبرر وأنه يقدس التنسيق الامني مع الاحتلال، لهذا فإن الاحتلال شعر بالطمأنينة والأمن، وهذا أقصى ما كان يتطلع  إليه، لدعم حالة الاستقرار السياسي ولتنفيذ مخططاته، خاصة بناء الاستيطان ومصادرة الأراضي وتهويد القدس وتعزيز قوته العسكرية والاقتصادية، ومن ثم الانطلاق إلى كسر الجدر العربية، وإغلاق ملف التطبيع.


بعد فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية تبدى الكثير مما خفي في ملف العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وبان التحالف الثنائي في أبهى صوره، تُرجم ذلك في خطوات وإجراءات غير مسبوقة في كسر الروتين، الذي اعتادت عليه الإدارات الأمريكية، وباشر ترامب في انتهاك المحرمات السياسية، وإصدر قرارات بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعتبارها عاصمة لإسرائيل، ثم الإعلان عن شرعية احتلال الجولان، ثم بدأ هجومه على العواصم العربية والتلويح بعقوبات صارمة إن لم تباشر تطبيعها مع الاحتلال، وبدأت هذه الأنظمة بالانهيار والالتحاق بركب التطبيع، واحدا تلو الآخر.


لقد سحبت آخر ورقة من جيب الرئيس أبو مازن وإقناعه أنه أصبح وحيدا في الحلبة السياسية، وأنه إن لم يعد إلى المفاوضات السياسية بشروط إسرائيلية فلن يكون له مكان في الحلبة السياسية. للأسف إن أبو مازن قابل كل هذا بخطوات شكلية لم تتجاوز التلويح بوقف العلاقة مع الاحتلال أو وقف التنسيق الامني واصم أذنيه عن كل الدعوات الفلسطينية إلى اجراء تغيير جوهري في مساره السياسي، وتجاهل كل القرارات التي صدرت عن المجلسين الوطني والمركزي وغيرها.


في المقابل فإن القوى السياسية، وعلى رأسها حركة حماس، ورغم تمسكها بالمقاومة كخيار استراتيجي ورفضها لمسار التسوية، لم تقدم بديلا حقيقيا يمكن أن يمثل منافسة قوية لمسار الرئيس أبو مازن أو يرغمه على التراجع. ونجح أبو مازن في دفع حماس إلى القبول بخيار الانتخابات كمخرج للحالة الوطنية المترهلة.




  • انتخابات موهومة


كان الهم الأكبر للرئيس ابو مازن أن يجدد شرعية نظامه السياسي أمام المجتمع الدولي، وأصر على أن الانتخابات هي المدخل الصحيح لإصلاح الحالة الوطنية، وتجاوبت حركة حماس مع هذا التوجه، لأسباب كثيرة، لكن هذه الجهود تعثرت أمام عدد من الخلافات المتعلقة بشمولية الانتخابات وتزامنها.


إن إجراء الانتخابات في وجود احتلال يتحكم بكل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية، هو مجرد تثبيت للمسار السياسي الفاشل الذي قادته السلطة وعملية تمويه مضللة للمجتمع الدولي بوجود حالة سلامة أو وجود سلطة حقيقية.


ثم إن الانتخابات تعكس رغبة الشعب بعمومه، وهذه الانتخابات لا تسمح لأكثر من نصف الشعب الفلسطيني المشاركة فيها.


والأمر الثالث والأهم: لماذا ولمن نجري الانتخابات؟، ونحن لا نملك دولة ولا سلطة حقيقية يمكن أن يتمخض عنها نظام سياسي قادر على إدارة شؤون البلاد بقليل من الحرية والاستقلالية.


والأمر الرابع الذي اجتمعت عليه الفصائل والقوى السياسية أنه لا يمكن إجراء انتخابات بدون توطئة وطنية وسياسية، وأن إجراءها في ظل الانقسام هو ضرب من العبث والمغامرة غير المحسوبة.


إن الانتخابات لا يمكن أن تعقد بمعزل عن باقي المكونات الوطنية، فالانتخابات لا يمكن أن تقوم إلا على قاعدة برنامج سياسي/وطني واضح، إذ أنه هو القاعدة الصلبة القادرة على حمل كل مكونات الحالة الوطنية بما فيها منظمة التحرير والسلطة والعلاقات الوطنية.


أما الانتخابات -لوحدها- فإنها أعجز من أن تتحمل الثقل السياسي بكل أعبائه  وتعقيداته.




  • ما هو الخيار الافضل؟


إن الفلسطينيين بإمكانهم إيجاد المخارج والحلول الصحيحة والحقيقية لأزمتهم السياسية والوطنية، وأمامهم العديد من الخيارات المتاحة التي يمكن استغلالها، لكن هذه الخطوة تستوجب ثلاث نقاط مهمة، الأولى: أن تتخذ القوى السياسية قرارا شجاعا ببدء حوار وطني استراتيجي وشمولي يتجاوز كل الحسابات الحزبية، والثانية: أن توضع كل القضايا على طاولة الحوار للمراجعة والتقييم، والثالثة: تعزيز فكرة أن الحوار يجب أن يكون فلسطينيا محضا، ولا يسمح بتدخل أي أطراف أخرى. هكذا يمكن أن تنجح الخيارات الفلسطينية وتصل إلى مبتغاها.


قد يقول قائل إنه جرب الحوار الوطني عشرات المرات ولم ينجح!! هذا صحيح لأنه عقد على أسس خاطئة لمعالجة المشاكل وإطفاء الحرائق، ولم يقم على أساس بناء أرضية صلبة من الرؤية الوطنية والحل السياسي المحكم، لهذا فإن الخلافات تعمقت أكثر من ذي قبل.


صحيح أن هناك الكثير من العقبات التي تقف أمام هذا المسار، لكن الفلسطينيين يمتلكون الكثير من عوامل القوة فيما لو اتحدوا ووحدوا رؤيتهم الوطنية.


إن الجري وراء سراب الخيارات الموهومة من إقامة سلام مع إسرائيل، أو إجراء انتخابات تحت حراب الاحتلال، أو القبول بحلول ترقيعية جزئية، لا يمكن إلا أن يزيد الطين بلة، وتزيد من حالة التيه السياسي والتشتت الوطني.

مواضيع ذات صلة

atyaf logo