بقلم: عبدالله أبو شرخ
ثمة سؤال افتتاحي هو: هل القناعة مفهوم سرمدي ثابت أم أنها مفهوم ديناميكي متحرك يتطور عبر الزمن ؟؟!
قبل اختراع محرك الديزل والسيارات وقبل اختراع الآلات البخارية، كانت وسائل النقل والمواصلات تقتصر على الدواب من حمير وبغال وجمال .. ماذا لو أن وسائل النقل بالبهائم كانت قناعة راسخة؟؟! لو كان الأمر كذلك لما ابتكر البشر السيارات والشاحنات والقطارات والسفن والغواصات، ثم لاحقا، الطائرات وسفن الفضاء!
تشكل عبارة (القناعة كنز لا يفنى) جزءا أساسيا من ثقافة العرب والمسلمين، بل وقد ترقى لاعتقاد يختلط بالقضاء والقدر الإلهي.. ذلك أنه، وعلى سبيل المثال، فإن معاناة الإنسان القديم من حر الصيف وبرد الشتاء، كانت، إلى زمن قريب، شيئا من التسليم الكامل بما تفرضه الطبيعة، لكن هذا التسليم وتلك القناعة، تهشمت وتطورت بعد ابتكار المكيفات التي تتحدى الطبيعة، فتحول حر الصيف وبرد الشتاء إلى أجواء لطيفة!!
يقول نزار قباني في إحدى قصائده الناقدة لثقافة المجتمع السائدة:
" بالحر قانعون .. بالبرد قانعون / بالحرب قانعون .. بالسلم قانعون / بالنسل قانعون .. بالعقم قانعون / .. "
قبل اكتشاف لويس باستور للجراثيم وحدوث طفرة تاريخية في علوم الطب، كانت البشرية تلجأ إلى السحر والشعوذة لعلاج الأمراض، باعتبار أن المرض أرواح شيطانية تحتل الجسم وتسبب له الوهن والألم، وأن العلاج يكمن في طرد تلك الأرواح من خلال السحر والحجابات أو قراءة بعض التراتيل المقدسة.. لكن بعد اكتشاف البكتيريا والفيروسات تم تطوير المضادات الحيوية والأمصال الواقية، وبالتالي انتقل علم الطب من الشعوذة إلى العلم، ومن السحر إلى المضادات الحيوية، ومن الطلاسم والتعاويذ إلى جراحة الليزر!!
لقد انتقلت البشرية من عصر الحمير والبغال إلى عصر الطاقة البخارية ثم إلى عصر الديزل ثم الكهرباء فالطاقة النووية، ومن الحسابات اليدوية إلى الحواسيب المذهلة، ومن الحمام الزاجل إلى الماسنجر والواتس آب، ومن عبادة القمر إلى الهبوط عليه، وأن كل ما كان يشكل قناعة في عصور سابقة، قد تحطم وتلاشى، وحل مكانه بدائل أكثر قوة وسرعة ودقة!
ما نرنو إليه في نهاية هذا المقال، هو أمنيات بالتغيير، ببعث الأمل في عقل الإنسان العربي، نحو التفكير في مساحات القناعة ومفاهيم الثبات والسكون، في حضارات بشرية متعاقبة لم تعرف الثبات ولا السكون، بدءا من سكنى الكهوف وحتى ناطحات السحاب، ومن البغال والحمير إلى البورش والفيراري، ومن السحر والشعوذة إلى البنسلين والترومايسين!
إن تحدي قوى الطبيعة وعدم التسليم والركوع أمام الأمر الواقع لم يتم بمعزل عن العقل المبدع الخلاق، بعكس العقل الناقل للجمود، حيث يمكن اختزال ما حدث من تقدم وازدهار في أوروبا والغرب مقارنة بالتخلف والتراجع الحضاري لدى العرب والمسلمين، بأنه الفارق بين العقول التي تحررت من سلطة الأمر الواقع وكنز القناعة، وبين العقول التي ترى في التفكير خطيئة وفي المنطق زندقة، وفيما الآخرون يستعدون للسفر بين الكواكب، نحن ما زلنا نتجادل ماذا نقول عند دخول الحمام، وعند غروب الشمس وشروقها!