"هبة مايو".. تكشف خفايا صراع فلسطيني طويل لاستعادة مدينة "اللد"

اشتباكات مع الاحتلال
اشتباكات مع الاحتلال

أخرجت هبة مايو/أيار في الداخل الفلسطيني المحتل إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الصراع الفلسطيني الصهيوني على مدينة اللد إلى النور.

فخلال هبة أيّار الفائتة، برزت السياسات الاستعمارية في مدينة اللد وتأثيرها على مناحي الحياة لسكان المدينة الفلسطينيين، في محاولة لفهم لماذا تميّزت اللد، ما الذي يدفع بالاحتلال أصلًا إلى استهداف اللد بشكل خاص؟، وإلى تفعيل الحركة الاستيطانية المتطرفة "النواة التوراتية" فيها على نحو لا تعرفه باقي المدن الفلسطينية المحتلة، خاصة وأن اللد ليست مركزًا توراتيًا قديمًا.

ويحاول محمد حليم طالب دكتورة فلسطيني في جامعة بئر السبع من خلال دراسة له الإجابة على هذا التساؤل باستعراض تاريخ المدينة ويقول:" إنه وبعد احتلال اللد وتهجير الغالبية الساحقة من أهلها وعلى مدار سنين طويلة قامت السلطات الإسرائيلية بهدم ممنهجٍ لما تبقى من المباني التي شكلت المدينة الفلسطينية حتى عام 1948.

فالمدينة القديمة المكتظة والتي كانت كلها حتى عام 1917 مُحيت بالكامل خلال العقد الأول للاحتلال، ولم يسلم منها غير المسجد العمري الكبير وكنيسة الخضر وبعض المباني الآيلة للسقوط، وبعد أن أكملت تسويتها بالأرض أنشأت في الستينيات على الجزء الشرقي من المدينة حيًا سكنيًا حديثًا لصالح المستوطنين اليهود أطلق عليه حي "رمات أشكول"، بينما أبقت على الجزء الغربي من المدينة منطقةً مفتوحةً كبيرةً تُستعمل موقعًا للسوق الأسبوعي المتنقل ومحطة حافلات.

اقرأ أيضاً: ترجمة خاصة اقتصاد إسرائيل في بيئة عالمية من عدم اليقين

أمّا ما بقي من مدينة ما قبل النكبة فهو عشرات المتاجر وبعض بيوت سكنية، لكن حتى هذا الحي جاءت آلة الهدم على معظمه، ويقتصر اليوم على ثلاثة شوارع مركزية تجارية وميدان أمام جامع دهمش. يُطلق على هذه المنطقة بلسان البعض حتى اليوم "اللد الانتدابية"، أمّا من يأتي إليها من الأحياء العربية الأربعة التي تطوّرت وتوسّعت حولها فهي "اللد"، فيما الاسم الأكثر تداولًا هو "البلد القديمة" نظرًا لأنها أقدم ما بقي.

وأضاف أنه في هذه المنطقة اتخذتُ بين الأعوام 2015 و2017 من أحد مقاهي الأرجيلة الفلسطينية، والذي يشكل جزء من مشهد ثقافي وتجاري فلسطيني جديد نما خلال العقديْن الأخيريْن في البلدة القديمة التي كانت منذ احتلال المدينة ولعقود بأيدٍ يهودية، وباتت اليوم وبفعل هذا المشهد تُعرف منطقةً عربية.

ويؤكد الباحث أنه يمكن فهم حدّة المواجهات بين السلطات الإسرائيلية وبين فلسطينيي مدينة اللد في هبة أيّار على أنها استمرار لصراع طويل بين طرفين لم يُحسم بعد، مشيراً إلى أن هذه الاستعادة الفلسطينية أُضيفت إلى استعادة أخرى لحي "رمات أشكول" الذي تحول خلال التسعينيات هو الآخر لمنطقة عربية نتيجة دخول العائلات الفلسطينية إلى الشقق السكنية التي خلت تدريجيًا من عائلات المستوطنين بعد انتقالهم إلى أحياء أفضل جنوب المدينة.

وبحسب "حليم" فإن هذا التطور والذي فصلَ إلى حد كبير بين فلسطينيي المدينة ومستوطنيها، ضرب عرض الحائط بالمصطلح الاستعماري "المدينة المختلطة"، وقوبل بمحاولات سلطات الاحتلال تقويضه من جهة الشمال بواسطة مشاريع استيطانية كبيرة.

وأوضح الكاتب أن المشهد الثقافي الفلسطيني الذي تطوّرَ فيما تبقى من البلدة القديمة هو جزء من مشروع استعادة أكبر لمكان المدينة وزمانها. لكن ما يميزه هو أنه ذو دلالات سياسية واقتصادية ورمزية كبيرة لكلا الطرفين؛ الفلسطيني الذي لا يريده أن يتراجع، والمستعمِر الذي يسعى إلى تحويله لمشهد إسرائيلي. وعلى العكس من محاولات السلطات الظاهرة للعيان هذه، قام فلسطينيو المدينة بتطوير مشهدهم الثقافي الجديد هذا بهدوء. إنها قصة استعادة فريدة تُجسّدها وتعكسها قصة المقهى.

وتابع :"كان المحلّ الذي سيصير القهوة مكانًا مهجورًا، صادرًا بحقه أمر هدم، لكن البلدية لم تكن تملك نقودًا كافية لهدمه، "قلتلهم إنه أنا بدي المحل وأنا بدي أرمّمه"، هكذا يقص "محسن الصح" حكاية تأسيس مقهاه عام 2004 من بين الركام في قلب المدينة المنكوب. في هذا الموقع نما ونشط المقهى الحميمي وجمهوره لعشر سنوات.

اقرأ أيضاً: كاتب فلسطيني: حماس تتقدم خطوات ملفتة نحو محور الاعتدال

بدايةً كان هذا المقهى ثالثًا لاثنين حديثي العهد مجاورين، ولاحقًا نما مشهد مقاهي الأرجيلة حتى وصل عددها خلال العقد الأخير ثمانية، نشطت كلها دون استثناء في مساحة قلب المدينة القديمة الضيقة. إنه مشهد ثقافي متفرّد لا تعرفه مدن أخرى من مدن الساحل الفلسطيني من حيث تجمّعه المُكثّف هذا، وحجمه، وحيويته، واقتصاره على الرجال الفلسطينيين. لقد نشط هذا المشهد على وجه الخصوص في ساعات الليل بعيدًا عن العائلات والبيوت السكنية، وتوارى عن أنظار الدولة في مبانٍ وساحات مغلقة. هذا ما وفّره قلب المدينة لهذا المشهد الفلسطيني من أجل ضمان تطوره في مدينة استعمارية ومجتمع محافظ.

وتابع:" خلال العقد الأخير من القرن العشرين، ومع تطور مراكز تجارية عصرية أخرى في المناطق اليهودية في اللد، فقدت المنطقة القديمة حيويتها بحيث قام التجار اليهود، المتقدمون في السن بمعظمهم، بإغلاق متاجرهم التي لم تعد تجني أرباحًا. هذا التحول رافقه إهمال كبيرٌ من قبل السلطات للبنى التحتية، فتحوّلت المنطقة إلى فراغ وحطام، لكن هذا الوضع لم يدم طويلًا وسرعان ما التفت أهل المدينة إلى مدينتهم وإلى فرصتهم في إحيائها، فبدأوا بملء هذا الفراغ.

وعام 1996 نجح أهل اللد في افتتاح مسجد دهمش بعد أن كان مغلقًا منذ احتلت الحركات الصهيونية المدينة وارتكبت فيه أبشع مجازرها. استعادة المسجد كانت مؤشرًا ونقطة انطلاق لعملية الاستعادة الأكبر.

وكشفت الدراسة أنه بعد مرور عشر سنوات على افتتاح محسن الصح للمقهى، تم إعلامه من قبل البلدية بأن عليه إخلاء المبنى وتسليمه للبلدية التي قررت أن تبني مكانه مقرًا جديدًا لها. مرغما انتقل محسن ورواد مقهاه المخلصون إلى مبنىً آخر قريب في قلب المدينة، ولكن مرّة أخرى ليس قبل أن ينظف ويرمّم.

وشدد الكاتب أنه لم يجد ما يدل على الصراع على قلب المدينة أفضل من هاتين المحطتين في حياة المقهى، الأولى إعماره من بين الركام وافتتاحه الأول للجمهور، والثانية إخلاء المبنى بأمرٍ من السلطات وهدمه وتموضعه في مبنى آخر بعد ترميمه.

وكشفت الدراسة أن الاسترداد الفلسطيني لقلب مدينة اللد جعل الوضع فيها مشابهًا للوضع في مدينة عكا القديمة من ناحية أنها تحت أيد فلسطينية وتحاول السلطة الاستيلاء عليها عبر مشاريع استيطانية، موضحا أن قلب المدينة المستعاد ليس تاريخيًا ولا مشتهى مثل عكّا القديمة، لكن كليهما يُعدّان اليوم "مناطق عربية" تواجه التهويد مجددًا.

وخلُص الباحث أن عنصرًا هامًّا قد توفر في المدينتين، قلّما يتوفر لفلسطينيي الأرض المحتلة عام 48، وهو إمكانية الفقدان. فقدان ما تم استعادته في اللد وفقدان ما تم البقاء والصمود فيه في عكا. هذان الإنجازان هما ما يقف وراء الاستهداف الاستيطاني الخاص بواسطة النواة التوراتية لكلتا المدينتين، وإمكانية فقدانهما تقف وراء تميز أحداث أيار الأخيرة في كلتا المدينتين من حيث الحدّة.

المصدر : متابعة-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo